فتحول إلى هذه الطريق، وكان يعرف أنه إذا سار عليها فإنه لن يصل إلى ضيعة لوفن إلا عند الغروب، وكان صاحب هذه الضيعة رجل يدعى ليلجيرونا، وكان بارعا في الضرب على الكمنجة، وكانت الضيعة في ذاتها حقيرة، ولكن جذبته إليها موسيقى صاحبها، وما هو أن فكر فيها حتى رأى أنه لا محيص له عن الذهاب إليها.
ودهش الضابط لاختياره هذه الطريق ولكنه لم يتردد هذه المرة، ووصل عند المساء إلى لوفن؛ حيث سر بلقائه ليلجيرونا، وحياه أجمل تحية ودعاه إلى النزول عنده، وقد بدا السرور عليه للقائه رجلا يذكره بالذكريات القديمة في أكبى، وكان إذا طرب ذهب وأخذ كمنجته وأخذ يضرب، ولكن ليلجيرونا كان قد أسن فلم يكن عزفه على ما عهده منه قديما الضابط برنكرتز، فقد كان في نغماته شيء يوهم أن اليد تتردد، كأنه يحاول أن يبلغ أشياء لا تعبر عنها الألفاظ، وكان البعض يقول: إن عزفه قد انحط وقد سمع الملازم هذه الإشاعات قبلا، ولكنه وهو يسمع له الآن شعر كأنه سيسمع منه لحنا حلوا جذابا، بل وضح في ذهنه وهو يوشك أن يموت بعد ساعات أن ليلجيرونا يمهد له الطريق، وهي طريق لا غاية لها؛ إذ هي تؤدي إلى الفضاء، وبينما وهو يسمع الموسيقى تتحسس أنغامها طريقها في الظلام إلى ما وراء فكر الإنسان، وخياله شعر بوقعها في نفسه شديدا حتى باح رب البيت بأن هذا اليوم هو آخر أيام حياته.
فقال ليلجيرونا وهو في غاية الانفعال: «وهل هذا هو سبب مجيئك إلي اليوم؟».
وقال برنكرتز وكأن عينيه تنظران من بعيد: «لم أجئ من أجلك وحدك، إنما جئت أيضا لكي أسمع ضربك على الكمنجة، والآن أشعر إني لم أرغب إلا في هذا اليوم، ألست ترى في الموسيقى شيئا غريبا».
فقال ليلجيرونا: إنك تقول حقا في الموسيقى أشياء غريبة. فقال برنكرتز: أجل لعلها كذلك؛ لأنها لا تتعلق بهذا العالم، يا للعجب! كلما تأملت في الموسيقى لا نعرف علتها ولا نرى فيها شيئا محسوسا نفهمها منه، ألست تظن يا أخي أن الموسيقى هي اللغة التي يتفاهمون بها فوق».
قال ذلك وأشار إلى السماء ثم استمر في حديثه قائلا: ومع ذلك لا يصلنا نحن هنا على الأرض إلا الصدى الضعيف».
فقال ليلجيرونا: «تعني أن تقول ...» ولكنه وقف هنا وشعر بعجزه عن التعبير عن أشياء لا تعبر عنها إلا نغمات الموسيقى.
فقال برنكرتز: «أعني أن أقول: إن الموسيقى تخص السماء والأرض معا. وربما كان القصد منها أن تكون طريقا بينهما، والآن يجب أن تعزف وتمهد لي هذه الطريق لكي أسير عليها إلى الأبدية».
وطفق ليلجيرونا يعزف بكل ما في نفسه وقلبه من قوة والضابط منصت في هدوء الليل، ثم تهافت فجأة ووقع على الأرض فقفز ليلجيرونا إليه ورفعه إلى الفراش فقال الضابط: «ما بي من بأس، إني أجوز الآن الطريق بين الأرض والسماء، أشكرك يا أخي». ولم ينطق بعدها بكلمة، وبعد ساعتين أسلم الروح.
قيمة الحياة
Página desconocida