واغتبطت رجاء بهذه البنت، وإن لم يعزها مولدها عن إصرار عزيز على ألا يبعث إليها بكلمة، ردا على الخطابات التي بعثت بها إليه. وقد ظل عزيز على إصراره، حتى يئست رجاء منه، فأمسكت عن الكتابة إليه، مكتفية بأن تسأل من يقدم من بغداد عن أخباره وأحواله!
وتعاقبت السنون، وأتم أخو عزيز الأصغر دراسته الثانوية، وآن له أن يلتحق بالجامعة، وكان يود أن يسلك طريق أبيه وأخيه، وأن يدرس الآداب، حتى لا تنسى الكلية ذلك الأب الذي افتخر بها وافتخرت به.
لكن شحاتة كان له رأي آخر، كان يرى أن يقف الفتى عند المرحلة التي بلغها، وأن يعمل معه في التجارة. وكانت حجته أن الحياة العملية أقوى أثرا في تكوين الشخصية من الدراسة النظرية.
لكن رجاء أبت رأي زوجها كل الإباء، فألح شحاتة في أن يلتحق الفتى بكلية التجارة؛ لأن التجارة تنبت الذهب من الحجارة، كسبها وفير، ورزقها حلال. وما قيمة المجد وقد فارق الدنيا والد الفتى وليست له تركة تذكر؟ لقد كانت مأساة وشحاتة حريص على ألا تكرر هذه المأساة!
ولم تستطع رجاء معارضة زوجها في هذا الرأي، وهي تعيش مع ولديها في كنفه. لهذا التحق الفتى بكلية التجارة. ومكنه ذكاؤه من التفوق فيها.
وكما فكر شحاتة في أن يتجه أخو عزيز الأصغر إلى التجارة، احتياطا للمستقبل، كذلك فكر في تزوج ابنه من زوجته الأولى، ابنة رجاء، ليكفل للأسرة كلها مستقبل رفاهية ورخاء.
وبعد سنوات انتهت مدة الانتداب التي سمح بها لعزيز في العراق، فدعته جامعة القاهرة ليعود إلى منصبه فيها. وكان عزيز مشوقا للعودة إلى مصر، مصرا مع ذلك على ألا يرى أمه ما عاش. لقد رقي في وظيفته، واقتصد من مرتبه المضاعف في العراق ما يسمح له بالعيش الكريم في القاهرة. ثم إنه كان مصرا على أن يحصل على الدرجات العلمية التي حصل عليها أبوه من قبل، والتي تؤهل صاحبها إلى منصب الأستاذية والعمادة. ولا يتأتى له ذلك مع بقائه في العراق.
عاد إلى القاهرة، ونزل بها فندقا، لا يكلفه نفقة طائلة، وبدأ يضطلع بعمله في كلية الآداب. وعرفت أمه عودته، فبعثت إليه أخاه يدعوه لمقابلتها. وتلطف أخوه في الحديث معه، وذكر له تقدمه في كلية التجارة، وأفضى إليه برسالة أمه، وبشدة شوقها للقياه.
قال عزيز متهكما: «أتراها تريدني أن أذهب إليها في بيت السيد شحاتة؟! كلا يا أخي! عد إليها فأبلغها أنني ما أزال عند رأيي الذي أنهيته إليها يوم رأتني لآخر مرة.»
قال أخوه: «لقد قدرت والدتي أنك لا ترضى أن تجيء إلى بيتنا، وهي لذلك حريصة على أن تلقاك حيث شئت. ولا بأس بأن تجيء إليك في هذا الفندق.»
Página desconocida