وكان صاحب الرسالة أحد الأقارب الذين قاضوا هيفاء حين مولد عمر، منكرين نسبه لأمه، فلا حق له من ثم في الوقف. ولم يفطن عمر إلى ما لعل صاحب الرسالة يريده من انتقام من هيفاء؛ لأن جزع الفتى على ألا يجد المال الذي يرضي أهواء شبابه، أنساه التفكير في كل شيء، غير المال وما يتجه له من متاع!
وكتب إلى أمه يريد العودة إلى مصر، فلم تلبث حين تلقت خطابه أن بعثت إليه بنفقة العودة، مغتبطة بها، ظنا منها أن عمر سئم أوروبا لأنه لم ينجح في دارسته، واقتناعا منها بأنه متى عاد استطاعت توجيهه في الحياة، توجيها ينفعه وينفع الأسرة كلها! •••
لم يلبث عمر - حين بلغ القاهرة - أن ذكر لأمه أنه يريد أن يتولى إدارة الوقف بنفسه، وأن يعرف حساب الوقف وما له وما عليه. ودهشت الأم لما طلب، وخيل إليها أنها تستطيع برقتها وحنانها أن ترده إلى حمى البنوة المطواع. وأغدقت عليه من هذا الحنان وهذه الرقة ما يمتلئ به صدرها الذي لا ينضب معين عطفه. لكنه أصر على أنها إن لم تجبه إلى طلبه استعان عليها بأقارب أبيه، وذكرها بأنه قارب سن الرشد، وبأنه صاحب الوقف والمتصرف المطلق في إيراده، فإن لم تنزل على إرادته اليوم، فستنزل عليها بحكم القانون عما قليل، ويومئذ يفقد أخواته البنات عطفه عليهن بسببها، ويحاسبها الحساب العسير عن إدارة الوقف كل هذه السنين.
سمعت الأم المسكينة هذا الكلام فأفزعها، وعادت بذاكرتها إلى يوم زهوها بأنها أنجبت هذا الغلام، وكفلت بمولده مستقبل بناتها، ونشرت أمام بصيرتها ما احتملت عشرين عاما حسوما، منذ مولده إلى اليوم الذي وجه فيه هذا الإنذار! ذكرت مقاضاة أقارب أبيه إياها وهو ما يزال في قماطه، وما كانت نفسها تضطرب به إذ ذاك من مخاوف لم تكن خسارة الدعوى أيسرها. فلو أن القضاء لم يحكم ببنوة عمر لعبده عاكف، لتعرضت من قالة الناس لأضعاف ما تعرضت له، ولتعرضت أكثر من ذلك لبأس قانون العقوبات وصرامته. ثم ذكرت حدبها عليه، ورعايتها إياه طفلا، بأكثر مما ترعى أي أم ابنها؛ لأنها كانت ترعى فيه أخواته البنات كذلك. وذكرت ليالي سهرها إلى جانب سريره مريضا، وهي في حيرة وقلق تأخذ المخاوف بخناقها، إشفاقا عليه وعلى أخواته. وذكرت من دقائق ما احتملت في سبيل تربيته وتعليمه طوال هذه السنوات العشرين، ما أثار دهشتها!
كيف سولت له نفسه، بعد هذا كله أن يخاطبها باللهجة التي خاطبها بها؟ ولو أن وقف عاكف بك لم يضع في يده كل هذا السلطان، لرعى في حقها حرمة الأمومة، أو حرمة التربية على الأقل! •••
استدار العام وبلغ عمر رشده، فلم يبطئ أن رفع الدعوى على أمه يطلب تسلم الوقف، وتقديمها الحساب عن سني إدارتها. وتسلمت هيفاء إعلان الدعوى، فتولتها الحيرة أي موقف تقفه منها: أتستسلم وتسلم الوقف لابنها مقابل إقراره حسابها؟ ولكن هبه رفض بتأثير أقارب أبيه، وذكر في المحكمة ما عرضته عليه، أفلا يضعف ذلك مركزها أمام القضاء؟ وهبه قبل وتسلم الوقف، واستولى على إيراده، ثم لم يعطها ولم يعط أخواته ما يكفل لهن العيش الكريم، أفتقاضيه يومئذ؟
وأدت بها هذه الحيرة إلى ثورة نفسية، قالت على أثرها فيما بينها وبين نفسها: وما لي لا أقف منه اليوم ما وقفت من أقارب أبيه بالأمس ... فأناضل عن بناتي، وهن أشد اليوم حاجة إلى نضالي عنهن بالأمس، والقدر الذي أنصفني بالأمس سينصفني إلى شاء الله غدا ، وسينصرني على هذا العاق، الذي جحد كل حق للحنان، وللعطف وللتربية، وللأمومة؟
واستشارت محاميها، فأقرها على رأيها. فلما كان موعد نظر الدعوى، طلب إلى المحكمة أن تأمر بضم دعوى النسب التي رفعت على هيفاء، فأنكر بعضهم فيها نسب عمر إلى أبيه. وأجاب القضاء هذا الطلب، وقدمت هيفاء الحساب عما أنفقت على عمر وعلى أخواته طوال هذه السنين. ودهش القضاة حينما اطلعوا على ملف دعوى النسب، وتساءلوا فيما بينهم: أكان عمر يقف من هيفاء هذا الموقف لو أنه كان ابنها حقا؟ لكن القضاء حكم من قبل بثبوت نسبه لأبيه حكما لا سبيل إلى إعادة النظر فيه. وهيفاء قد بذلت من حنانها وروحها، لهذا الذي جحد فضلها، وكفر بنعمتها، ما يجعلها جديرة بكل عطف. لكن لعمر في الوقف حقا لا يستطيع أحد إنكاره، والقضاة يستطيعون اعتماد الحساب الذي قدمته أمه، فأما إن تسلم الوقف وأساء معاملة أخواته، فماذا يكون مآلهن؟
ازداد القضاة حيرة حين علموا أن عمر هجر بيت أمه، من يوم أن بلغ رشده، ووقف منها موقف خصومة عنيفة، أعانه عليها أقارب أبيه، الذين أنكروا من قبل بنوته.
فماذا يفعل هؤلاء القضاة ليكون حكمهم عدلا بين الجميع، محققا مصلحة الجميع؟
Página desconocida