تَرْجَمَة الْمُؤلف
هُوَ أَبُو الْقَاسِم مُحَمَّد بن أَحْمد بن جزي الْكَلْبِيّ الغرناطي من ذَوي الْأَصَالَة والوجاهة والنباهة وَالْعَدَالَة الإِمَام الْحَافِظ الْعُمْدَة المتفنن أَخذ عَن ابْن الزبير ولازم ابْن رشد وَأَبا الْمجد بن أبي الْأَحْوَط وَالْقَاضِي ابْن برطال وَأَبا الْقَاسِم بن الشَّاط وانتفع بِهِ وَابْن الكماد وَالْوَلِيّ الطنجالي وَغَيرهم وَمِنْه أبناؤه مُحَمَّد وَأَبُو بكر أَحْمد وعبد الله وأمان الدّين بن الْخَطِيب وَإِبْرَاهِيم الخزرجي وَغَيرهم ألف فِي فنون من الْعلم مِنْهَا وَسِيلَة الْمُسلم فِي تَهْذِيب صَحِيح مُسلم والأقوال السّنيَّة فِي الْكَلِمَات السّنيَّة والدعوات والأذكار المخرجة من صَحِيح الْأَخْبَار والقوانين الْفِقْهِيَّة فِي تَلْخِيص مَذْهَب الْمَالِكِيَّة والتنبيه على مَذْهَب الشَّافِعِيَّة وَالْحَنَفِيَّة والحنبلية وتقريب الْوُصُول إِلَى علم الْأُصُول والنور الْمُبين فِي قَوَاعِد عقائد الدّين والمختصر البارع فِي قِرَاءَة نَافِع وأصول الْقُرَّاء السِّتَّة غير نَافِع والفوائد الْعَامَّة فِي لحن الْعَامَّة وَغير ذَلِك مِمَّا قَيده من التَّفْسِير وَالْقِرَاءَة وفهرسة كَبِيرَة اشْتَمَلت على كثير من أهل الْمشرق وَالْمغْرب توفّي شَهِيدا فِي وَاقعَة طريف سنة ٧٤١ وَكَانَ مولده سنة ٦٩٣
1 / 5
مُقَدّمَة
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وَآله وَصَحبه وَسلم قَالَ عبد الله خديم الْكتاب وَالسّنة مُحَمَّد بن أَحْمد ابْن مُحَمَّد بن جزي الْكَلْبِيّ تَابَ الله عَلَيْهِ آمين الْحَمد لله ذِي الْجلَال الَّذِي عجزت عَن إِدْرَاك كنهه عقول العارفين والكمال الَّذِي قصرت عَن إحصاء ثنائه أَلْسِنَة الواصفين وَالْقُدْرَة الَّتِي وجلت من رهبتها قُلُوب الْخَائِفِينَ وَالْعَظَمَة الَّتِي عنت لعزتها وُجُوه الطائعين والعاكفين وَالْعلم الَّذِي أحَاط بِمَا فَوق الْعَرْش إِلَى أطباق الثرى وَالْحكمَة الَّتِي ظهر أَثَرهَا فِي كل مَا نَشأ وبرأ وذرأ مِمَّا نرى وَمِمَّا لَا نرى وَالرَّحْمَة الواسعة الَّتِي شملت أكنافها فِي جَمِيع الورى وَالنعْمَة السابغة وَالْحجّة الْبَالِغَة والسطوة الدامغة لمن كذب وافترى سُبْحَانَهُ من مليك لم يخلق عباده عبثاولم يتركهم سدى بل أرسل الرُّسُل مبشرين ومنذرين وداعين إِلَى الْحق وَالْهدى وَنهى وَأمر وحذر وَبشر ووعد من اهْتَدَى وأوعد من اعْتدى ثمَّ ختم الرسَالَة بنبينا مُحَمَّد ﷺ صَاحب الدعْوَة التَّامَّة والرسالة الْعَامَّة إِلَى الْإِنْس والجان وَالْملَّة الناسخة لجَمِيع الْأَدْيَان والشريعة الْبَاقِيَة إِلَى آخر الزَّمَان والآيات الْبَينَات والأدلة القاطعة الساطعة الْبُرْهَان وَأنزل عَلَيْهِ الْقُرْآن هدى للنَّاس وبينات من الْهدى وَالْفرْقَان وَجعله معْجزَة ظَاهِرَة للعيان متجددة مَا اخْتلف الملوان وتعاقب الْأَزْمَان فَمَا قَبضه الله إِلَيْهِ حَتَّى أكمل بِهِ الدّين وأوضح السَّبِيل المستبين وأقامه حجَّة الله على الْخلق أَجْمَعِينَ وَظهر فِي الْوُجُود مصداق قَوْله تَعَالَى «وَمَا أَرْسَلْنَاك إِلَّا رَحْمَة للْعَالمين» ف ﷺ وتبارك وترحم وَشرف وكرم وعَلى آله الطاهرين وَأَصْحَابه الأكرمين (أما بعد) فَهَذَا كتاب فِي
1 / 6
قوانين الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة ومسائل الْفُرُوع الْفِقْهِيَّة على مَذْهَب إِمَام الْمَدِينَة أبي عبد الله مَالك بن أنس الأصبحي ﵁ إِذْ هُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ أهل بِلَادنَا بالأندلس وَسَائِر الْمغرب اقْتِدَاء بدار الْهِجْرَة وتوفيقا من الله تَعَالَى وَتَصْدِيقًا لقَوْل الصَّادِق المصدوق ﷺ (لَا يزَال أهل الْمغرب ظَاهِرين على الْحق حَتَّى تقوم السَّاعَة) ثمَّ زِدْنَا إِلَى ذَلِك التَّنْبِيه على كثير من الِاتِّفَاق وَالِاخْتِلَاف الَّذِي بَين الإِمَام الْمُسَمّى وَبَين الإِمَام أبي عبد الله أَحْمد بن إِدْرِيس الشَّافِعِي وَالْإِمَام أبي حنيفَة النُّعْمَان ابْن ثَابت وَالْإِمَام أبي عبد الله بن حَنْبَل لتكمل بذلك الْفَائِدَة ويعظم الِانْتِفَاع فَإِن هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَة هم قدوة الْمُسلمين فِي أقطار الأَرْض وأولو الأتباع والأشياع وَرُبمَا نبهت على مَذْهَب غَيرهم من أَئِمَّة الْمُسلمين كسفيان الثَّوْريّ وَالْحسن الْبَصْرِيّ وعبد الله بن الْمُبَارك وَإِسْحَاق بن رَاهَوَيْه وَأبي ثَوْر وَالنَّخَعِيّ وداوود بن عَليّ إِمَام الظَّاهِرِيَّة وَقد أكثرنا من نقل مذْهبه وَاللَّيْث بن سعد وَسَعِيد بن الْمسيب وَالْأَوْزَاعِيّ وَغَيرهم ﵃ أَجْمَعِينَ فَإِن كل وَاحِد مِنْهُم مُجْتَهد فِي دين الله ومذاهبهم طرق موصلة إِلَى الله وَاعْلَم أَن هَذَا الْكتاب ينيف على سَائِر الْكتب بِثَلَاث فَوَائِد (الْفَائِدَة الأولى) أَنه جمع بَين تمهيد الْمَذْهَب وَذكر الْخلاف العالي بِخِلَاف غَيره من الْكتب فَإِنَّهَا فِي الْمَذْهَب خَاصَّة أَو فِي الْخلاف العالي خَاصَّة (الْفَائِدَة الثَّانِيَة) إِنَّا لمحناه يحسن التَّقْسِيم وَالتَّرْتِيب وسهلناه بالتهذيب والتقريب فكم فِيهِ من تَقْسِيم قسيم وتفصيل أصيل يقرب الْبعيد ويلين الشريد (الْفَائِدَة الثَّالِثَة) إِنَّا قصدنا إِلَيْهِ الْجمع بَين الإيجاز وَالْبَيَان على أَنَّهُمَا قَلما يَجْتَمِعَانِ فجَاء بعون الله سهل الْعبارَة لطيف الْإِشَارَة تَامّ الْمعَانِي مُخْتَصر الْأَلْفَاظ حَقِيقا بِأَن يلهج بِهِ الْحفاظ وَإِلَى الله نرغب فِي أَن يَجعله مُوجبا لغفرانه وموصلا لرضوانه وفاتحا لخزائن إحسانه وامتنانه إِنَّه ذُو فضل عَظِيم
1 / 7
بَيَان اصْطِلَاح الْكتاب
إِذا تكلمنا فِي مَسْأَلَة قيدنَا أَولا بِمذهب مَالك ثمَّ نتبعه بِمذهب غَيره إِمَّا نصا وَتَصْرِيحًا وَإِمَّا إِشَارَة وتلويحا وَإِذا سكتنا عَن حِكَايَة الْخلاف فِي مَسْأَلَة فَذَلِك مُؤذن فِي الْأَكْثَر بِعَدَمِ الْخلاف فِيهَا وَإِذا ذكرنَا الْإِجْمَاع والإتفاق فنعني إِجْمَاع الْأمة وَإِذا ذكرنَا الْجُمْهُور فنعني إتفاق الْعلمَاء إِلَّا من شَذَّ قَوْله وَإِذا ذكرنَا الْأَرْبَعَة فنعني مَالِكًا وَالشَّافِعِيّ وَأَبا حنيفَة وَابْن حَنْبَل وَفِي ذَلِك إِشْعَار بمخالفة بعض الْعلمَاء لَهُم وَرُبمَا صرحنا بذلك وَإِذا قُلْنَا قَالَ قوم أَو خلافًا لقوم فنعني خَارج الْمذَاهب الْأَرْبَعَة وَإِذا ذكرنَا الثَّلَاثَة فنعني مَالِكًا وَالشَّافِعِيّ وَأَبا حنيفَة وَفِي ذَلِك إِشْعَار بمخالفة أَحْمد بن حَنْبَل لَهُم أَو أَنه لم ينْقل لَهُ مَذْهَب فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَة وَإِذا ذكرنَا الْإِمَامَيْنِ فنعني مَالِكًا وَالشَّافِعِيّ وَإِذا ذكرنَا ضمير الْإِثْنَيْنِ كَقَوْلِنَا عِنْدهمَا أَو خلافًا لَهما فنعني الشَّافِعِي وَأَبا حنيفَة وَإِذا ذكرنَا ضمير الْجَمَاعَة فَقُلْنَا عِنْدهم أَو خلافًا لَهُم وَشبه ذَلِك فنعني الشَّافِعِي وَأَبا حنيفَة وَابْن حَنْبَل وَإِذا قُلْنَا الْمَذْهَب فنعني مَذْهَب مَالك وَفِي ذَلِك إِشْعَار بمخالفة غَيره وَإِذا قُلْنَا الْمَشْهُور فنعني مَشْهُور مَذْهَب مَالك وَفِي ذَلِك إِشْعَار بِخِلَاف فِي الْمَذْهَب وَإِذا قُلْنَا قيل كَذَا أَو اخْتلف فِي كَذَا أَو فِي كَذَا قَولَانِ فَأكْثر فنعني فِي الْمَذْهَب وَإِذا قُلْنَا رِوَايَتَانِ فنعني عَن مَالك وَأكْثر مَا نقدم القَوْل الْمَشْهُور
بَيَان تَرْتِيب الْكتاب
اعْلَم أنني افتتحته بعقيدة سنية وجيزة تَقْدِيمًا للأهم فَلَا جرم أَن الْأُصُول أهم من الْفُرُوع وَمن الْحق تَأْخِير التَّابِع وَتَقْدِيم الْمَتْبُوع ثمَّ قسمت الْفِقْه إِلَى قسمَيْنِ أَحدهمَا فِي الْعِبَادَات وَالْآخر فِي الْمُعَامَلَات وضمنت كل قسم عشرَة كتب على مائَة بَاب فانحصر الْفِقْه فِي عشْرين كتابا ومائتي بَاب (الْقسم الأول) فِيهِ من الْكتب كتاب الطَّهَارَة كتاب الصَّلَاة كتاب الْجَنَائِز كتاب الزَّكَاة كتاب الصّيام والإعتكاف كتاب الْحَج كتاب الْجِهَاد كتاب الْأَيْمَان وَالنُّذُور كتاب الْأَطْعِمَة والأشربة وَالصَّيْد والذبائح كتاب الضَّحَايَا والعقيقة والختان (الْقسم الثَّانِي) فِيهِ من الْكتب كتاب النِّكَاح كتاب الطَّلَاق وَمَا يتَّصل بِهِ كتاب الْبيُوع كتاب الْعُقُود
1 / 8
المشاكلة للبيوع كتاب الْأَقْضِيَة والشهادات كتاب الْأَبْوَاب الْمُتَعَلّقَة بالأقضية كتاب الدِّمَاء وَالْحُدُود كتاب الهبات وَمَا يجانسها كتاب الْعتْق وَمَا يتَعَلَّق بِهِ كتاب الْفَرَائِض والوصايا (ثمَّ ختمته) بِكِتَاب الْجَامِع وَهُوَ يحتوي على عشْرين بَابا وَإِنَّمَا انحصرت الْكتب والأبواب فِي هَذَا الْعدَد لأنني ضممت كل شكل إِلَى شكله وألحقت كل فرع بِأَصْلِهِ وَرُبمَا جمعت فِي تَرْجَمَة وَاحِدَة مَا يفرقه النَّاس فِي تراجم كَثِيرَة رعيا للمقاربة والمشاكلة ورغبة فِي الإختصار وَالله الْمُسْتَعَان وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه الْعلي الْعَظِيم (الْفَاتِحَة) فِيمَا يجب فِي الإعتقادات من أصُول من أصُول الديانَات ويشتمل على عشرَة أَبْوَاب خَمْسَة الإلهيات وَخَمْسَة فِي السمعيات
الْبَاب الأول فِي وجود الْبَارِي ﷻ وَعز نواله
اعْلَم أَن الْعَالم الْعلوِي والسفلي كُله مُحدث بعد الْعَدَم شَاهد على نَفسه بالحدوث ولخالقه بالقدم وَذَلِكَ لما يَبْدُو عَلَيْهِ من تَغْيِير الصِّفَات وتعاقب الحركات والسكنات وَغير ذَلِك من الْأُمُور الطارئات وكل مُحدث فَلَا بُد لَهُ من مُحدث أوجده وخالق خلقه إِذْ لَا بُد لكل فعل من فَاعل فَجَمِيع الموجودات من الأَرْض وَالسَّمَاوَات والحيوانات والجمادات من الْجبَال والبحار والأنهار وَالْأَشْجَار وَالثِّمَار والأزهار والرياح والسحاب والأمطار وَالشَّمْس وَالْقَمَر والنجوم وَاخْتِلَاف اللَّيْل وَالنَّهَار وكل صَغِير وكبير فِيهِ آثَار الصَّنْعَة ولطائف الْحِكْمَة وَالتَّدْبِير فَفِي كل شَيْء دَلِيل قَاطع وبرهان سَاطِع على وجود الصَّانِع وَهُوَ الله رب الْعَالمين وخالق الْخلق أَجْمَعِينَ الْملك الْحق الْمُبين الَّذِي احتجب عَن الْأَبْصَار بكبريائه وعلو شَأْنه وَظهر للبصائر بِقُوَّة سُلْطَانه ووضوح برهانه فَمَا أعظم برهَان الله وَمَا أَكثر الدَّلَائِل على الله «أَفِي الله شكّ فاطر السَّمَوَات وَالْأَرْض» وحسبك الْفطْرَة الَّتِي فطر النَّاس عَلَيْهَا وَمَا يُوجد فِي النُّفُوس ضَرُورَة من افتقار الْعُبُودِيَّة وَمَعْرِفَة الربوبية «وَلَئِن سَأَلتهمْ من خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض ليَقُولن الله»
الْبَاب الثَّانِي فِي صِفَات الله تَعَالَى عز شَأْنه وبهر سُلْطَانه
جرت عَادَة الْمُتَكَلِّمين بِإِثْبَات سبع صِفَات وَهِي الْحَيَاة وَالْقُدْرَة والإرادة وَالْعلم والسمع وَالْبَصَر وَالْكَلَام (فَأَما الْحَيَاة) فَإِن الله هُوَ الأول الْقَدِيم الَّذِي لم يزل فِي أزل الْأَزَل قبل وجود الْأَزْمَان وَلم يكن مَعَه شَيْء غَيره وَهُوَ الْآن على مَا عَلَيْهِ كَانَ وَأَنه الْحَيّ الْبَاقِي «الآخر» الَّذِي لَا يَمُوت وكل من عَلَيْهَا فان (وَأما الْقُدْرَة) فَإِنَّهُ قدير على كل شَيْء لَا يعجزه شَيْء وَلَا يصعب عَلَيْهِ شَيْء وَبِيَدِهِ
1 / 9
ملكوت كل شَيْء أَلا ترى أثر قدرته فِي اختراع الموجودات وإمساك الأَرْض وَالسَّمَاوَات ونفوذ أمره فِي التَّصَرُّف فِي الْمَخْلُوقَات فَفِي كل يَوْم يُمِيت ويحيي ويخلق ويفني ويفقر ويغني وَيهْدِي ويضل ويعز ويذل وَيُعْطِي وَيمْنَع ويخفض وَيرْفَع ويسعد ويشقي ويعافي ويبتلي «إِنَّمَا أمره إِذا أَرَادَ شَيْئا أَن يَقُول لَهُ كن فَيكون» (وَأما الْإِرَادَة) فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ المريد لجَمِيع الكائنات الْمُدبر للحادثات الْمُقدر المقدورات الفعال لما يُرِيد فَكل نفع وضر وحلو وَمر وَكفر وإيمان وَطَاعَة وعصيان وَزِيَادَة ونقصان وَربح وخسران فبإرادته الْقَدِيمَة وقضائه وَقدره ومشيئته الحكيمة لَا راد لأَمره وَلَا معقب لحكمه وَلَا اعْتِرَاض عَلَيْهِ فِي فعله «لَا يسْأَل عَمَّا يفعل وهم يسْأَلُون» كل نعْمَة مِنْهُ فضل وكل نقمة مِنْهُ عدل اقْتضى ذَلِك ملكه وحكمته فالمالك يفعل مَا يَشَاء فِي ملكه وَالْملك يحكم بِمَا أَرَادَ على مماليكه والحكيم أعلم بِمَا تَقْتَضِيه حكمته «وَالله يعلم وَأَنْتُم لَا تعلمُونَ» قدر أرزاق الْخلق وآجالهم وأعمالهم وشقاوتهم وسعادتهم «كل فِي كتاب مُبين» خلق قوما للجنة فيسرهم لليسرى وبعمل أهل الْجنَّة يعْملُونَ وَخلق قوما للنار فيسرهم للعسرى وبعمل أهل النَّار يعْملُونَ «وَمَا رَبك بظلام للعبيد» (وَأما الْعلم) فَإِنَّهُ ﵎ اسْمه عَالم بِجَمِيعِ المعلومات مُحِيط بِمَا تَحت الأَرْض السُّفْلى إِلَى مَا فَوق السَّمَاوَات أحَاط بِكُل شَيْء علما وأحصى كل شَيْء عددا وَعلم مَا كَانَ وَمَا يكون وَمَا لَا يكون لَو كَانَ كَيفَ كَانَ يكون وَهُوَ حَاضر بِعِلْمِهِ فِي كل مَكَان ورقيب على كل إِنْسَان «يعلم سركم وجهركم وَيعلم مَا تكسبون» قد اسْتَوَى عِنْده الظَّاهِر وَالْبَاطِن واطلع على مخبآت السرائر ومكنونات الضمائر حَتَّى أَنه يعلم مَا يهجس فِي نفوس الْحيتَان فِي قعور الْبحار «إِنَّه عليم بِذَات الصُّدُور» (وَأما السّمع وَالْبَصَر) فَإِنَّهُ تَعَالَى سميع بَصِير لَا يعزب عَن سَمعه مسموع وَإِن خَفِي وَلَا يغيب عَن رُؤْيَته مرأى وَإِن دق «يعلم السِّرّ وأخفى» حَتَّى دَبِيب النملة السَّوْدَاء على الصَّخْرَة الصماء فِي اللَّيْلَة الظلماء «لَا يخفى عَلَيْهِ شَيْء فِي الأَرْض وَلَا فِي السَّمَاء» وَمَا أحسن تعقيب هَذَا ببرهان «هُوَ الَّذِي يصوركم فِي الْأَرْحَام كَيفَ يَشَاء» (وَأما الْكَلَام) فَإِنَّهُ جلّ وَعز مُتَكَلم بِصفة أزلية لَيْسَ بِحرف وَلَا صَوت وَلَا يقبل الْعَدَم وَلَا مَا فِي مَعْنَاهُ من السُّكُوت وَلَا التَّبْعِيض وَلَا التَّقْدِيم وَلَا التَّأْخِير الَّذِي لَا يشبه كَلَام المخلوقين كَمَا لَا تشبه ذَاته ذَوَات المخلوقين لَا تنفذ كَلِمَاته كَمَا لَا تحصى معلوماته وَلَا تَنْحَصِر مقدوراته «قل لَو كَانَ الْبَحْر مدادا لكلمات رَبِّي لنفذ الْبَحْر قبل أَن تنفذ كَلِمَات رَبِّي وَلَو جِئْنَا بِمثلِهِ مدَدا» وَالدَّلِيل على ثُبُوت هَذِه الصِّفَات ثَلَاثَة أوجه (الْوَجْه الأول) أَنَّهَا صِفَات كَمَال فَوَجَبَ وصف الله بهَا وأضدادها صِفَات نقص فَوَجَبَ تنزيهه عَنْهَا «وَللَّه الْمثل الْأَعْلَى» (الْوَجْه الثَّانِي) أَنَّهَا تدل عَلَيْهَا آثَار حكمته فَإِن اتقان الصَّنْعَة دَلِيل على حَيَاة الصَّانِع وَقدرته وَعلمه وَسَائِر صِفَاته (الْوَجْه الثَّالِث) مَا ورد من النُّصُوص الصَّرِيحَة فِي الْقُرْآن وَالْأَخْبَار الصَّحِيحَة
1 / 10
الْبَاب الثَّالِث فِي أَسمَاء الله تَعَالَى الْحسنى
قَالَ رَسُول الله ﷺ (إِن لله تِسْعَة وَتِسْعين اسْما من أحصاها دخل الْجنَّة) وَقد وَردت مَعْدُودَة مُعينَة فِي حَدِيث أخرجه التِّرْمِذِيّ من طَرِيق أبي هُرَيْرَة ﵁ وَاخْتلف النَّاس فِي تِلْكَ الْأَسْمَاء الْمعينَة فِيهِ هَل هِيَ فِيهِ مَرْفُوعَة إِلَى النَّبِي ﷺ كأصل الحَدِيث أَو هِيَ مَوْقُوفَة على أبي هُرَيْرَة لِأَن لله تَعَالَى أَسمَاء زَائِدَة على تِلْكَ الْمعينَة مِنْهَا مَا ورد فِي الْقُرْآن والْحَدِيث وَمِنْهَا مَا هِيَ أَسمَاء مُشْتَقَّة من أَفعاله وَاعْلَم أَن أَسمَاء الله وَصِفَاته تَنْقَسِم على الْجُمْلَة إِلَى ثَلَاثَة أَقسَام مِنْهَا مَا يرجع إِلَى الذَّات وَإِلَى صِفَات الذَّات وَإِلَى صِفَات الْفِعْل وتنقسم على التَّفْصِيل بِالنّظرِ إِلَى مَعَانِيهَا عشرَة أَقسَام (الأول) اسْم يدل على الذَّات وَهُوَ قَوْلنَا (الله) وَقد قيل أَنه اسْم الله الْأَعْظَم (الثَّانِي) أَسمَاء تدل على الوحدانية كإسمه الْوَاحِد الصَّمد وَالْوتر (الثَّالِث) أَسمَاء تدل على الْحَيَاة كالحي وَالْأول وَالْآخر (الرَّابِع) أَسمَاء تدل على اختراع الْمَخْلُوقَات وَذَلِكَ أخص صِفَات الربوبية كالخالق والباري والفاطر (الْخَامِس) أَسمَاء تدل على الْقُدْرَة كالقدير والمنتقم والقهار (السَّادِس) أَسمَاء تدل على الْإِرَادَة كالمريد والفعال لما يُرِيد والقابض والباسط (السَّابِع) أَسمَاء تدل على الْإِدْرَاك كالعليم والسميع والبصير (الثَّامِن) أَسمَاء تدل على العظمة والجلال كالعظيم وَالْكَبِير والعلي (التَّاسِع) أَسمَاء تدل على الْملك والتملك كالملك وَالْمَالِك والغني (الْعَاشِر) أَسمَاء تدل على الرَّحْمَة كالرحمن الرَّحِيم والغفار والتواب والوهاب
الْبَاب الرَّابِع فِي تَوْحِيد الله تَعَالَى
وَهُوَ محصول قَوْلنَا «لَا إِلَه إِلَّا الله» وَهُوَ أَن تؤمن بِأَنَّهُ إِلَه وَاحِد أحد فَرد صَمد لم يتَّخذ صَاحِبَة وَلَا ولدا وَلَا يُشَارِكهُ فِي حكمه أحد لَيْسَ لَهُ فِي ربوبيته شريك وَلَا نَظِير وَلَيْسَ لَهُ فِي ملكه ضد وَلَا ند وَلَا مُنَازع وَلَا ظهير والبرهان الْوَاضِح على الوحدانية مَعْقُول أَربع آيَات (الأولى) قَوْله تَعَالَى «لَو كَانَ فيهمَا آلِهَة إِلَّا الله لفسدتا» وَمِنْه أَخذ المتكلمون دَلِيل التمانع إِلَّا أَن الْقُرْآن أفْصح وأوضح (وَالثَّانيَِة) قَوْله تَعَالَى «قل لَو كَانَ مَعَه آلِهَة كَمَا تَقولُونَ إِذا لابتغوا إِلَى ذِي الْعَرْش سَبِيلا» فَإِن عدم النزاع دَلِيل دَلِيل على عدم المنازع (وَالثَّالِثَة) قَوْله تَعَالَى «مَا اتخذ الله من ولد وَمَا كَانَ مَعَه من إِلَه إِذا لذهب كل إِلَه بِمَا خلق ولعلا بَعضهم على بعض» فكون الْوُجُود كُله مرتبطا بعضه بِبَعْض دَلِيل على أَن مَالِكه وَاحِد (وَالرَّابِعَة) مَعْقُول قَوْله تَعَالَى «وَاتَّخذُوا من دون الله آلِهَة لَا يخلقون شَيْئا وهم يخلقون» فَإِن
1 / 11
من صِفَات الْإِلَه كَونه خَالِقًا وَلَا خَالق إِلَّا الله فَلَا إِلَه إِلَّا الله وَغَيره مَخْلُوق والمخلوق لَا يكون شَرِيكا لخالقه «أَفَمَن يخلق كمن لَا يخلق أَفلا تذكرُونَ» تَكْمِيل الطوائف الْمُخَالفَة فِي التَّوْحِيد النَّصَارَى وَالْمَجُوس والصابئة والمنجمون والطبائعيون فَأَما النَّصَارَى فَكَفرُوا بأقوالهم الْفَاسِدَة ومذاهبهم الضَّالة فِي عِيسَى وَأمه ﵉ وأبلغ الرَّد عَلَيْهِم مَضْمُون خمس آيَات (الأولى) قَوْله «كَانَا يأكلان الطَّعَام» فَذَلِك صفة الْحُدُوث والعبودية لَا صفة الربوبية (الثَّانِيَة) قَوْله «إِن مثل عِيسَى عِنْد الله كَمثل آدم» أَي من قدر على خلق الْإِنْسَان من غير أم وَلَا ولد قَادر على خلق آخر بِأم دون وَالِد (الثَّالِثَة) قَوْله «قُولُوا اتخذ الله ولدا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيّ» فَإِن الْغَنِيّ الْمُطلق لَا يحْتَاج إِلَى زَوْجَة وَلَا ولد وَلَا إِلَى أحد (الرَّابِعَة) قَوْله «وَمَا يَنْبَغِي للرحمن أَن يتَّخذ ولدا إِن كل من فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض إِلَّا آتِي الرَّحْمَن عبدا» فَإِن الربوبية والعبودية لَا يَجْتَمِعَانِ (الْخَامِسَة) قَول عِيسَى ﵇ «إِنِّي عبد الله» وَقَوله «يَا بني إِسْرَائِيل اعبدوا الله رَبِّي وربكم» فاعترافه على نَفسه بالعبودية بَيَان كذب من وَصفه بالربوبية وَأما الْمَجُوس فَكَفرُوا بِعبَادة النُّور وَالرَّدّ عَلَيْهِم قَوْله «وَجعل الظُّلُمَات والنور» فَإِن الْمُحدث الْمَخْلُوق لَا يكون إِلَهًا وَأما الصابئة فَكَفرُوا فَكَفرُوا بِعبَادة الْمَلَائِكَة ونسبتهم إِلَى الله وَالرَّدّ عَلَيْهِم قَوْله «بل عباد مكرمون» وَأما المنجمون فأثبتوا للكواكب تَأْثِيرا فِي الْوُجُود وَالرَّدّ عَلَيْهِم قَوْله «وَالشَّمْس وَالْقَمَر والنجوم مسخرات بأَمْره» والمسخر مَمْلُوك مقهور وَقَوله «لَا تسجدوا للشمس وَلَا للقمر واسجدوا لله الَّذِي خَلقهنَّ» فَكيف يُشَارك مَخْلُوق خالقه وَأما الطبائعيون فنسبوا الْأَفْعَال للطبيعة وَالرَّدّ عَلَيْهِم قَوْله «ثَمَرَات مُخْتَلفَة ألوانها» وَقَوله «تسقى بِمَاء وَاحِد ونفضل بَعْضهَا على بعض فِي الْأكل» فَإِن اخْتِلَاف الأشكال والألوان والروائح والطعوم وَالْمَنَافِع والمضار دَلِيل على الْفَاعِل الْمُخْتَار إِشَارَة صوفية التَّوْحِيد نَوْعَانِ عَام وخاص فالعام عدم الْإِشْرَاك الْجَلِيّ وَهُوَ مقَام الْإِيمَان الْحَاصِل لجَمِيع الْمُؤمنِينَ وَالْخَاص عدم الْإِشْرَاك الْخَفي وَهُوَ مقَام الْإِحْسَان وَهُوَ خَاص بالأولياء العارفين ﵃ أَجْمَعِينَ
الْبَاب الْخَامِس فِي تَنْزِيه اله تَعَالَى
وَهُوَ معنى قَوْلنَا سُبْحَانَ الله وَذَلِكَ أَن تؤمن بِأَنَّهُ لَيْسَ كمثله شَيْء وَلَا هُوَ مثل شَيْء لَا يشبه شَيْئا وَلَا يُشبههُ شَيْء تَعَالَى أَن يكون لَهُ شَبيه أَو مثيل أَو عديل أَو نَظِير أَو قرين وَأَنه لَا يفْتَقر إِلَى شَيْء وَإِن كل شَيْء إِلَيْهِ فَقير وَأَنه لَا يَلِيق بِهِ نقص وَلَا عيب بل تقدس عَن كل نقص وتبرأ من جَمِيع الْعُيُوب وَأَنه لَا تَأْخُذهُ سنة وَلَا نوم وَلَا تلْحقهُ آفَة وَلَا يُصِيبهُ عجز وَلَا نصب وَلَا لغوب وَأَنه لَا تَنْفَعهُ طَاعَة الْعباد وَلَا تضره الذُّنُوب وَأَنه لَا يَمُوت وَلَا يفنى وَلَا يضل وَلَا ينسى وَلَا يكون فِي
1 / 12
ملكه إِلَّا مَا يَشَاء فَمَا شَاءَ كَانَ وَمَا لم يَشَأْ لم يكن وَإنَّهُ لَا يظلم أحدا وَإنَّهُ لَا تنقص خزائنه وَلَا يبيد مَا عِنْده أبدا (تَنْبِيه) ورد فِي الْقُرْآن والْحَدِيث أَلْفَاظ يُوهم ظَاهرهَا التَّشْبِيه كَقَوْلِه تَعَالَى «على الْعَرْش اسْتَوَى» و«يَدَاهُ مبسوطتان» وكحديث نزُول الله كل لَيْلَة إِلَى سَمَاء الدُّنْيَا وَغير ذَلِك وَهِي كَثِيرَة تفرق النَّاس فِيهَا ثَلَاث فرق (الْفرْقَة الأولى) السّلف الصَّالح من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وأئمة الْمُسلمين آمنُوا بهَا وَلم يبحثوا عَن مَعَانِيهَا وَلَا تأولوها بل أَنْكَرُوا على من تكلم فِيهَا «والراسخون فِي الْعلم يَقُولُونَ أمنا بِهِ كل من عِنْد رَبنَا» وَهَذِه طَريقَة التَّسْلِيم الَّتِي تعود إِلَى السَّلامَة وَبهَا أَخذ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأكْثر الْمُحدثين (الْفرْقَة الثَّانِيَة) قوم حملوها على ظَاهرهَا فلزمهم التجسيم ويعزى ذَلِك إِلَى الحنبلية وَبَعض الْمُحدثين (الْفرْقَة الثَّالِثَة) قوم تأولوها وأخرجوها على ظَاهرهَا إِلَى مَا يَقْتَضِيهِ أَدِلَّة الْعُقُول وهم أَكثر الْمُتَكَلِّمين وَالله أعلم
الْبَاب السَّادِس فِي الْإِيمَان بملائكة الله وَكتبه وَرُسُله
اعْلَم أَن (الْمَلَائِكَة) عباد الله مكرمون عِنْده يعبدونه ويسبحونه ويطيعونه وَلَا يعصونه وَلَا يسبقونه بالْقَوْل وهم بأَمْره يعْملُونَ فَمنهمْ حَملَة الْعَرْش وسكان السَّمَوَات وحفظة على بني آدم وموكلون بالأمطار والنبات والنطف والأرحام والتماس مجَالِس الذّكر وَلَا يُحِيط بعددهم إِلَّا الله وَإِن الله بعث الْأَنْبِيَاء وَأرْسل الرُّسُل مبشرين ومنذرين وَمِنْهُم من سَمَّاهُ الله فِي الْقُرْآن وَمِنْهُم من لم يسمه وأولهم آدم أَبُو الْبشر وَآخرهمْ سيدهم (مُحَمَّد) ﷺ النَّبِي الْأُمِّي خَاتم النَّبِيين وَإِن الله أنزل عَلَيْهِ جِبْرِيل الْأمين بِالْقُرْآنِ الْمُبين كَمَا أنزل التَّوْرَاة على مُوسَى وَأنزل الْإِنْجِيل على عِيسَى وَأنزل الزبُور على دَاوُود وَأنزل صحفا على غَيرهم من الْأَنْبِيَاء صلوَات الله عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ فَقَالَ تَعَالَى «قُولُوا آمنا بِاللَّه وَمَا أنزل إِلَيْنَا وَمَا أنزل إِلَى إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل وَإِسْحَاق وَيَعْقُوب والأسباط وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ من رَبهم لَا نفرق بَين أحد مِنْهُم وَنحن لَهُ مُسلمُونَ» وَأَن الله أوجب على جَمِيع الْأُمَم بِالدُّخُولِ فِي دين الْإِسْلَام «وَمن يبتغ غير الْإِسْلَام دينا فَلَنْ يقبل مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَة من الخاسرين» وَأَن الله آتى كل نَبِي من الْآيَات مَا مثله آمن عَلَيْهِ الْبشر وَلما كَانَت رِسَالَة نَبينَا ﷺ أَعم وشريعته ناسخة لما تقدم اقْتضى ذَلِك أَن تكون براهينه أظهر وآياته أبهر وَدَلَائِل صدقه أكبر وَأكْثر مُبَالغَة فِي إِقَامَة الْحجَّة وإيضاحا لسلوك المحجة فَلَقَد أيده الله بأنواع من الْآيَات الباهرة والعلامات الظَّاهِرَة فِيهَا عِبْرَة لأولي الْأَلْبَاب وَمَا أَحْوَاله وأقواله وأفعاله إِلَّا الْعجب العجاب وَلَقَد أحصى لَهُ عُلَمَاؤُنَا رضوَان الله عَلَيْهِم ألف معْجزَة وَهِي ترجع إِلَى خَمْسَة أَنْوَاع (أَحدهَا) الْقُرْآن الْعَظِيم الَّذِي أعجز الْإِنْس وَالْجِنّ على الْإِتْيَان بِمثلِهِ وَلَو كَانَ بَعضهم لبَعض ظهيرا وتضمن من الْعُلُوم الالهية وَالْحكم
1 / 13
الربانية والأسرار الَّتِي كَانَت محجوبة عَنْهَا عقول الْبَريَّة مَا يدل قطعا على أَنه تَنْزِيل من الرَّحْمَن الرَّحِيم (وَالثَّانِي) مَا ظهر على يَدَيْهِ ﷺ من المعجزات الخوارق للعادات وَهِي كَثِيرَة جدا (وَالثَّالِث) مَا سبق قبله من الْإِعْلَام بِهِ والمبشرات (الرَّابِع) مَا ظهر لسَائِر أمته من الكرامات فَإِنَّهَا دَلِيل على صِحَة دينهم وَصدق متبوعهم ﷺ وَانْظُر ظُهُور دينه فِي الْمَشَارِق والمغارب وَحفظه من التَّغْيِير والتبديل مُنْذُ أَزِيد من سَبْعمِائة عَام يظْهر لَك أَن ذَلِك بِأَمْر سماوي واعتقاد رباني (وَالْخَامِس) مَا وهبه الله من الْأَخْلَاق الْعَظِيمَة وَالشَّمَائِل الْكَرِيمَة الَّتِي لَا يجمعها الله إِلَّا لأحب عباده وَأكْرمهمْ عَلَيْهِ وحسبك قَوْله سُبْحَانَهُ «وَإنَّك لعلى خلق عَظِيم» وَاعْلَم أَن معجزاته ﷺ بِالنّظرِ إِلَى نقلهَا تَنْقَسِم ثَلَاثَة أَقسَام (الأول) مَا نقطع بِصِحَّتِهِ فتقوم بِهِ الْحجَّة وَإِن كَانَ وَاحِدًا على انْفِرَاده كالقرآن الْعَظِيم وكانشقاق الْقَمَر لوروده فِي الْقُرْآن وكنبع المَاء من بَين أَصَابِعه ﷺ وتكثير الطَّعَام الْقَلِيل لاشتهار ذَلِك وانتشاره وعدول رُوَاته ووقوعه فِي مشَاهد عَظِيمَة ومحافل كَثِيرَة (الثَّانِي) مَا نقطع بِصِحَّة نَوعه لِكَثْرَة وُقُوعه وَإِن لم نقطع بِصِحَّة آحاده كالأخبار بالغيوب وَإجَابَة الدَّعْوَات فَإِن ذَلِك كثر مِنْهُ ﷺ حَتَّى صَار مَجْمُوعَة مَقْطُوعًا بِهِ (الثَّالِث) مَا نقل نَوعه وأشخاصه نقل الْآحَاد وَلَكِن إِذا جمع إِلَى غَيره أَفَادَ الْقطع بِوُقُوع المعجزات
الْبَاب السَّابِع فِي الْإِيمَان بِالدَّار الْآخِرَة وتشمل على اثْنَتَيْ عشرَة مَسْأَلَة
(الْمَسْأَلَة الأولى) الْإِيمَان بالبرزخ وَعَذَاب من شَاءَ فِي الْقُبُور وَذَلِكَ من الْقُرْآن قَوْله «برزخ إِلَى يَوْم يبعثون» وَقَوله «النَّار يعرضون عَلَيْهَا غدوا وعشيا وَيَوْم تقوم السَّاعَة أدخلُوا آل فِرْعَوْن أَشد الْعَذَاب» فَذَلِك دَلِيل على عَذَاب قبل يَوْم الْقِيَامَة وَمن السّنة أَخْبَار صَحِيحَة (الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة) سُؤال الْملكَيْنِ وَقد وَردت بِهِ الْأَحَادِيث الصِّحَاح وَإِلَيْهِ الْإِشَارَة بقوله «يثبت الله الَّذين آمنُوا بالْقَوْل الثَّابِت فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَالْآخِرَة» (الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة) قيام الْخلق من قُبُورهم وحشرهم إِلَى الْحساب وَالثَّوَاب وَالْعِقَاب فدليل جَوَازه قدرَة الله ﷿ عَلَيْهِ «وَهُوَ الَّذِي يبْدَأ الْخلق ثمَّ يُعِيدهُ وَهُوَ أَهْون عَلَيْهِ» «مَا خَلقكُم وَمَا بعثكم إِلَّا كَنَفس وَاحِدَة» وَدَلِيل وُقُوعه وُرُود الشَّرَائِع ونطق الرُّسُل والكتب بِهِ وَلَا سِيمَا شريعتنا فقد أبلغت فِي النذارة والبشارة لتقوم الْحجَّة على الْعَالمين ثمَّ أَن الْحِكْمَة تَقْتَضِي مجازاة المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته «ليجزي الله كل نفس مَا كسبت» وَإِنَّمَا يظْهر ذَلِك فِي الدَّار الْآخِرَة لَا فِي الدُّنْيَا وَلَوْلَا الْجَزَاء الأخروي لاستوى الْمُؤمن وَالْكَافِر والمطيع والعاصي «أفنجعل الْمُسلمين كالمجرمين» (الْمَسْأَلَة الرَّابِعَة) الْحساب على الْأَعْمَال وَقد نطق بِهِ الْكتاب وَالسّنة (الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة) الْقصاص بَين الْعباد
1 / 14
وَقد نطق بِهِ أَيْضا الْكتاب وَالسّنة (الْمَسْأَلَة السَّادِسَة) وزن الْأَعْمَال وَقد نطق بِهِ أَيْضا الْكتاب وَالسّنة (الْمَسْأَلَة السَّابِعَة) إِعْطَاء الْكتاب إِمَّا بِالْيَمِينِ وَإِمَّا بالشمال وَقد ورد أَيْضا فِي الْكتاب وَالسّنة (الْمَسْأَلَة الثَّامِنَة) جَوَاز النَّاس على الصِّرَاط وَهُوَ جسر مَمْدُود على جَهَنَّم وَالنَّاس متفاوتون فِي سرعَة الْجَوَاز على قدر أَعْمَالهم وَمِنْهُم من يكب فِي نَار جَهَنَّم دَلِيله من الْقُرْآن قَوْله «فأهدوهم إِلَى صِرَاط الْجَحِيم» وَمن السّنة أَحَادِيث صِحَاح (الْمَسْأَلَة التَّاسِعَة) حَوْض النَّبِي ﷺ ترده أمته لَا يظمأ من شرب مِنْهُ أبدا وَيُزَاد عَنهُ من بدل أَو غير وَدَلِيله من الْقُرْآن قَوْله «إِنَّا أعطيناك الْكَوْثَر» وَقد جَاءَ تَفْسِيره بالحوض فِي الحَدِيث الصَّحِيح وَمن السّنة أَحَادِيث صَحِيحَة كَثِيرَة (الْمَسْأَلَة الْعَاشِرَة) شَفَاعَة النَّبِي ﷺ فِي أمته ودليلها من الْقُرْآن قَوْله «عَسى أَن يَبْعَثك رَبك مقَاما مَحْمُودًا» وَمن السّنة أَحَادِيث صَحِيحَة والشفاعة فِي خَمْسَة مَوَاطِن (أَحدهَا) فِي إراحة النَّاس من الْموقف وتعجيل الْفَصْل وَهِي مُخْتَصَّة بنبينا ﷺ (الثَّانِيَة) فِي إنقاذ من وَجَبت عَلَيْهِ النَّار (الثَّالِثَة) فِي إِخْرَاج من دخل النَّار من المذنبين (الرَّابِعَة) فِي تَعْجِيل دُخُول الْجنَّة (الْخَامِسَة) فِي رفْعَة الدَّرَجَات فِي الْجنَّة (الْحَادِيَة عشرَة) فِي دُخُول النَّار ويدخلها صنفان (الصِّنْف الأول) الْكفَّار كلهم ويعذبون بأنواع الْعَذَاب وَبَعْضهمْ أَشد عذَابا من بعض وهم فِيهَا خَالدُونَ «لَا يفتر عَنْهُم وهم فِيهِ مبلسون» (الصِّنْف الثَّانِي) من شَاءَ الله من عصاة الْمُسلمين ثمَّ يخرجُون مِنْهَا برحمة الله تَعَالَى وشفاعة الْأَنْبِيَاء وَالْمَلَائِكَة وَالشُّهَدَاء الصَّالِحين وَسَائِر الْمُؤمنِينَ
تَحْقِيق
إِنَّمَا يدْخل من الْمُؤمنِينَ النَّار من اجْتمعت فِيهِ سَبْعَة أَوْصَاف (أَحدهَا) أَن تكون لَهُ ذنُوب تَحَرُّزًا من الْمُتَّقِينَ (الثَّانِي) أَن يَمُوت غير تائب من ذنُوبه فَإِن التائب من الذَّنب كمن لَا ذَنْب لَهُ (الثَّالِث) أَن تكون ذنُوبه كَبَائِر فَإِن الصَّغَائِر تغْفر باجتناب الْكَبَائِر (الرَّابِع) أَن لَا تثقل حَسَنَاته فَلَو رجحت على سيآته وَلَو بِوَزْن ذرة نجا من النَّار (الْخَامِس) أَن لَا يكون مِمَّن لَهُ النجَاة بِعَمَل سَابق كَأَهل بدر وبيعة الرضْوَان (السَّادِس) أَن لَا يشفع فِيهِ أحد (السَّابِع) أَن لَا يغْفر لَهُ الله (الثَّانِيَة عشرَة) دُخُول الْجنَّة وَلَا يدخلهَا إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ وينعمون فِيهَا بأنواع النَّعيم وَيَنْظُرُونَ إِلَى وَجه الله الْكَرِيم بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى «وُجُوه يَوْمئِذٍ ناضرة إِلَى رَبهَا ناظرة» وَأَحَادِيث صَحِيحَة صَرِيحَة وهم فِيهَا خَالدُونَ جعلنَا الله مِنْهَا بفضله وَرَحمته
الْبَاب الثَّامِن فِي الْإِمَامَة وَفِيه مَسْأَلَتَانِ
(الْمَسْأَلَة الأولى) فِي إِثْبَات إِمَامَة الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة ﵃ وَالدَّلِيل على
1 / 15
إِمَامَة جَمِيعهم من ثَلَاثَة أوجه (أَحدهَا) أَن كل وَاحِد مِنْهُم جمع شُرُوط الْإِمَامَة على الْكَمَال (وَالْآخر) أَن كل وَاحِد مِنْهُم أجمع الْمُسلمُونَ فِي زَمَانه على بيعَته وَالدُّخُول تَحت طَاعَته وَالْإِجْمَاع حجَّة (وَالثَّالِث) مَا سبق لكل وَاحِد مِنْهُم من الصُّحْبَة وَالْهجْرَة والمناقب الجليلة وثناء الله عَلَيْهِم وَشَهَادَة الصَّادِق ﷺ لَهُم بِالْجنَّةِ ثمَّ إِن أَبَا بكر وَعمر أَشَارَ رَسُول الله ﷺ إِلَى خِلَافَتهمَا وَأمر بالإقتداء بهما وَقدم أَبَا بكر على حجَّة الْوَدَاع وعَلى الصَّلَاة بِالنَّاسِ فِي مرض مَوته وَذَلِكَ دَلِيل على استخلافه ثمَّ اسْتخْلف أَبُو بكر عمر ثمَّ جعل عمر الْأَمر شُورَى بَين سِتَّة وَاتَّفَقُوا على تَقْدِيم عُثْمَان إِلَى أَن قتل مَظْلُوما بِشَهَادَة النَّبِي ﷺ بذلك ووعده لَهُ بِالْجنَّةِ على ذَلِك ثمَّ ثمَّ كَانَ أَحَق النَّاس بهَا بعده عَليّ لرتبته الشَّرِيفَة وفضائله المنيفة وَأما مَا شجر بَين عَليّ وَمُعَاوِيَة وَمن كَانَ مَعَ كل مِنْهُمَا من الصَّحَابَة فَالْأولى الْإِمْسَاك عَن ذكره وَأَن يذكرُوا بِأَحْسَن الذّكر ويلتمس لَهُم أحسن التَّأْوِيل فَإِن الْأَمر كَانَ فِي مَحل الإجتهاد فَأَما عَليّ وَمن كَانَ مَعَه فَكَانُوا على الْحق لأَنهم اجتهدوا فَأَصَابُوا فهم مأجورون وَأما مُعَاوِيَة وَمن كَانَ مَعَه فاجتهدوا فأخطأوا فهم معذورون وَيَنْبَغِي توقيرهم وتوقير سَائِر الصَّحَابَة ومحبتهم لما ورد فِي الْقُرْآن من الثَّنَاء عَلَيْهِم ولصحبتهم لرَسُول الله ﷺ فقد قَالَ ﷺ «الله الله فِي أَصْحَابِي لَا تجعلوهم غَرضا بعدِي فَمن أحبهم فبحبي أحبهم وَمن أبْغضهُم فببغضي أبْغضهُم وَمن آذاهم فقد آذَانِي وَمن آذَانِي فقد آذَى الله) (الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة) فِي شُرُوط الْإِمَامَة وَهِي ثَمَانِيَة الْإِسْلَام وَالْبُلُوغ وَالْعقل والذكورة والعدول وَالْعلم والكفاءة وَأَن يكون نسبه من قُرَيْش وَفِي هَذَا خلاف فَإِن اجْتمع النَّاس على من لم تَجْتَمِع الشُّرُوط فِيهِ جَازَ خوفًا من إِيقَاع الْفِتْنَة وَلَا يجوز الْخُرُوج على الْوُلَاة وَإِن جاروا حَتَّى يظْهر مِنْهُم الْكفْر الصراح وَتجب طاعتهم فِيمَا أحب الْإِنْسَان وَكره إِلَّا أَن أمروا بِمَعْصِيَة فَلَا طَاعَة لمخلوق فِي مَعْصِيّة الْخَالِق
الْبَاب التَّاسِع فِي الْإِيمَان وَالْإِسْلَام وَفِيه مَسْأَلَتَانِ
(الْمَسْأَلَة الأولى) فِي مَعْنَاهُمَا أما الْإِسْلَام فَمَعْنَاه فِي اللُّغَة الإنقياد مُطلقًا وَمَعْنَاهُ فِي الشَّرِيعَة الإنقياد لله وَلِرَسُولِهِ ﷺ بالنطق بِاللِّسَانِ وَالْعَمَل بالجوارح وَأما الْإِيمَان فَمَعْنَاه فِي اللُّغَة التَّصْدِيق مُطلقًا وَمَعْنَاهُ فِي الشَّرِيعَة التَّصْدِيق بِاللَّه وَمَلَائِكَته وَكتبه وَرُسُله وَالْيَوْم الآخر فالإسلام وَالْإِيمَان على هَذَا متباينان وعَلى ذَلِك قَوْله تَعَالَى «قَالَت الْأَعْرَاب آمنا قل لم تؤمنوا وَلَكِن قُولُوا أسلمنَا» وَقد يستعملان مترادفين كَقَوْلِه «فأخرجنا من كَانَ فِيهَا من الْمُؤمنِينَ فَمَا وجدنَا فِيهَا غير بَيت من الْمُسلمين» وَقد يستعملان متداخلين بِالْعُمُومِ وَالْخُصُوص فَيكون الْإِسْلَام أَعم إِذا كَانَ الإنقياد بِاللِّسَانِ وَالْقلب والجوارح لِأَن الْإِيمَان خَاص
1 / 16
بِالْقَلْبِ وَيكون الْإِيمَان أَعم إِذا قُلْنَا أَنه قَول اللِّسَان واخلاص بِالْقَلْبِ وَعمل بالجوارح وَهُوَ قَول كثير من السّلف وَإِذا قُلْنَا أَن الْإِسْلَام بِاللِّسَانِ والجوارح خَاصَّة (المسأة الثَّانِيَة) فِي أحكامهما وَفِي ذَلِك أَربع صور (الأولى) أَن يجمع بَينهمَا وَهُوَ أَن يكون العَبْد مُؤمنا بِقَلْبِه منقادا بجوارحه فَهَذَا مخلص عِنْد الله (الثَّانِيَة) عكسهما وَهُوَ أَن يعْدم الوصفين فَهَذَا كَافِر مخلد فِي النَّار (الثَّالِثَة) الانقياد بالجوارح دون الْإِيمَان بِالْقَلْبِ فَهَذَا مخلد فِي النَّار وَهُوَ الَّذِي كَانَ يُسمى فِي زمن النبوءة منافقا وَسمي بعد ذَلِك زنديقا (الرَّابِعَة) عكسها) وَهِي الْإِيمَان بِالْقَلْبِ دون النُّطْق وَالْعَمَل فَإِذا كَانَ ذَلِك لإكراه ولضيق الْوَقْت كمن أسلم ثمَّ مَاتَ بأثر ذَلِك قبل أَن يَسعهُ نطق وَلَا عمل فَهُوَ مَعْذُور مخلص عِنْد الله وان كَانَ لغير ذَلِك فَاخْتلف فِيهِ
الْبَاب الْعَاشِر فِي الِاعْتِصَام بِالسنةِ وَفِيه مَسْأَلَتَانِ
(الْمَسْأَلَة الأولى) فِي ترك الْبدع قَالَ رَسُول الله ﷺ (تركت فِيكُم أَمريْن لن تضلوا مَا تمسكتم بهما كتاب الله وسنتي) وَقَالَ ﷺ (أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بأهيم اقْتَدَيْتُمْ) وحض على الِاقْتِدَاء بالخلفاء الرَّاشِدين فالخير كُله فِي التَّمَسُّك بِالْكتاب وَالسّنة والاقتداء بالسلف الصَّالح وتجنب كل مُحدث وبدعة وَقد كَانَ المتقدمون يذمون الْبدع على الاطلاق وَقَالَ الْمُتَأَخّرُونَ أَنَّهَا خَمْسَة أَقسَام وَاجِبَة كتدوين الْعلم ومندوبة كَصَلَاة التَّرَاوِيح وَحرَام كالمكوس وَغَيرهَا ومكروه كتخصيص بعض الْأَيَّام بِبَعْض الْعِبَادَات ومباح كَمثل مَا أحدثه النَّاس من المطاعم والملابس فقد قَالَت عَائِشَة ﵂ لم يكن فِي زمن النَّبِي ﷺ مناخل (الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة) فِي النّظر والتقليد وَذَلِكَ أَن الِاعْتِقَاد يحصل إِمَّا بِالنّظرِ وَإِمَّا بالتقليد فَأَما التَّقْلِيد فَاخْتلف الْعلمَاء فِيهِ فمذهب الْمُتَكَلِّمين أَنه لَا يجوز وَلَا يجزأ وَقَالَ أَكثر الْمُحدثين أَنه جَائِز يخلص عِنْد الله وَهُوَ الصَّحِيح لِأَن رَسُول الله ﷺ قنع من النَّاس بِحُصُول الْإِيمَان بِأَيّ وَجه حصل من تَقْلِيد أَو نظر وَلَو أوجب عَلَيْهِم الِاسْتِدْلَال أَو النّظر لعسر الدُّخُول فِي الدّين على كثير من النَّاس كَأَهل الْبَوَادِي وَغَيرهم وَإِنَّمَا النّظر وَالِاسْتِدْلَال شأنذوي الْعُقُول الراجعة والأذهان الثَّابِتَة وَفِيه تَتَفَاوَت دَرَجَات الْعلمَاء وَذَلِكَ فضل الله يؤتيه من يَشَاء ثمَّ إِن خير الِاسْتِدْلَال مَا كَانَ على طَريقَة السّلف الصَّالح من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وأئمة الْمُسلمين وَهُوَ الِاسْتِدْلَال بِكِتَاب الله وتدبر آيَاته وَالِاعْتِبَار فِي بديع مخلوقاته وعجائب مصنوعاته والاقتداء بأخبار الْمُصْطَفى ﷺ وجمي لسيرته وباهر علاماته ثمَّ إخلاص الْمحبَّة لَهُ وَلأَهل بَيته الطاهرين وأزواجه وَأُمَّهَات الْمُؤمنِينَ وَأَصْحَابه الْأَبْرَار الأكرمين وَالتَّابِعِينَ لَهُم بِإِحْسَان إِلَى يَوْم الدّين وَرَضي الله عَنْهُم أَجْمَعِينَ آمين»
1 / 17
الْقسم الأول من القوانين الْفِقْهِيَّة فِي الْعِبَادَات وفيهَا عشرَة كتب
= الْكتاب الأول فِي الطَّهَارَة وفيهَا مُقَدّمَة وَعشرَة أَبْوَاب =
الْمُقدمَة وفيهَا مَسْأَلَتَانِ
(الْمَسْأَلَة الأولى) فِي أَنْوَاع الطَّهَارَة الطَّهَارَة فِي الشَّرْع معنوية وحسية فالمعنوية طَهَارَة الْجَوَارِح وَالْقلب من دنس الذُّنُوب والحسية هِيَ الْفِقْهِيَّة الَّتِي ترَاد للصَّلَاة وَهِي على نَوْعَيْنِ طَهَارَة حدث وطهارة خبث فطهارة الْحَدث ثَلَاث كبرى وَهِي الْغسْل وصغرى وَهِي الْوضُوء وَبدل مِنْهُمَا عِنْد تعذرهما وَهُوَ التَّيَمُّم وطهارة الْخبث ثَلَاث غسل وَمسح ونضح (الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة) فِي شُرُوط وجوب الطَّهَارَة وَإِنَّمَا تجب الطَّهَارَة على من وَجَبت عَلَيْهِ الصَّلَاة وَذَلِكَ بِعشْرَة شُرُوط (الأول) الْإِسْلَام وَقيل بُلُوغ الدعْوَة فعلى الأول لَا تجب على الْكَافِر وعَلى الثَّانِي تجب عَلَيْهِ وَذَلِكَ مَبْنِيّ على الْخلاف فِي مُخَاطبَة الْكفَّار بالفروع وَلَا تصح الصَّلَاة من كَافِر بِإِجْمَاع وَإِذا أسلم الْمُرْتَد لم يلْزمه قَضَاء مَا فَاتَهُ من الصَّلَوَات فِي ردته خلافًا للشَّافِعِيّ (الثَّانِي) الْعقل فَلَا تجب على الْمَجْنُون والمغمى عَلَيْهِ إِلَّا إِذا أَفَاق فِي بَقِيَّة الْوَقْت بِخِلَاف السَّكْرَان فَإِنَّهَا لَا تسْقط عَنهُ (الثَّالِث) الْبلُوغ وعلاماته خمس الِاحْتِلَام والانبات وَالْحيض وَالْحمل وبلوغ السن وَهُوَ خَمْسَة عشر عَاما وَقيل سَبْعَة عشر عَاما فَلَا تجب على الصَّبِي وَيُؤمر بهَا لسبع وَيضْرب عَلَيْهَا لعشر وان صلى ثمَّ بلغ فِي بَقِيَّة الْوَقْت أَو فِي أثْنَاء الصَّلَاة لَزِمته الْإِعَادَة خلافًا للشَّافِعِيّ (الرَّابِع) ارْتِفَاع دم الْحيض وَالنّفاس (الْخَامِس) دُخُول
1 / 18
الْوَقْت (السَّادِس) عدم النَّوْع (السَّابِع) عدم النسْيَان (الثَّامِن) عدم الْإِكْرَاه وَيَقْضِي النَّائِم وَالنَّاسِي وَالْمكْره اجماعا (التَّاسِع) وجود المَاء أَو الصَّعِيد فَمن عدمهما فَاخْتلف هَل يُصَلِّي أم لَا وَهل يقْضِي أم لَا (الْعَاشِر) الْقُدْرَة على الْفِعْل بِقدر الْإِمْكَان
الْبَاب الأول فِي الْوضُوء وَفِيه أَرْبَعَة فُصُول
(الْفَصْل الأول) فِي أَنْوَاع الْوضُوء وَهُوَ على خَمْسَة أَنْوَاع وَاجِب ومستحب وَسنة ومباح وممنوع وَلَا يُصَلِّي إِلَّا بِالْوَاجِبِ وَهُوَ الْوضُوء لصَلَاة الْفَرْض والتطوع وَسُجُود الْقُرْآن بِإِجْمَاع ولصلاة الْجِنَازَة عِنْد الْجُمْهُور ولمس الْمُصحف خلافًا للظاهرية وللطواف خلافًا لأبي حنيفَة فَمن تَوَضَّأ لشَيْء من هَذِه الْأَشْيَاء جَازَ لَهُ فعل جَمِيعهَا وَأما السّنة فوضوء الْجنب للنوع وأوجبه ابْن حبيب والظاهرية وَأما الْمُسْتَحبّ فالوضوء لكل صَلَاة عِنْد الْجُمْهُور خلافًا لمن أوجبه ووضوء الْمُسْتَحَاضَة وَصَاحب السلس لكل صَلَاة خلافًا لَهُم فِي وُجُوبه وَالْوُضُوء للقربات كالتلاوة وَالذكر وَالدُّعَاء وَالْعلم وللمخاوف كركوب الْبَحْر وَالدُّخُول على السُّلْطَان وَالْقَوْم وَأما الْمُبَاح فللتنظيف والتبرد وَأما الْمَمْنُوع فالتجديد قبل أَن تقع بِهِ عبَادَة (الْفَصْل الثَّانِي) فِي فَرَائض الْوضُوء وَهِي سِتَّة النِّيَّة وَغسل الْوَجْه وَغسل الْيَدَيْنِ وَمسح الرَّأْس وَغسل الرجلَيْن والفور فَأَما النِّيَّة فَهِيَ الْقَصْد وَتجب فِي كل قربَة بأَرْبعَة أَوْصَاف وَهِي أَن تكون فعلا لَا تركا سوى الصّيام وَأَن تكون من حُقُوق الله تَعَالَى تَحَرُّزًا من أَدَاء الدُّيُون وَشبهه وَأَن تكون فِيمَا يَفْعَله الْمَرْء بِنَفسِهِ تَحَرُّزًا من غسل الْمَيِّت وَمن يوضىء غَيره وَأَن تكون معقولة الْمَعْنى فَلهَذَا لَا تجب فِي إِزَالَة النَّجَاسَة بِإِجْمَاع وَتجب فِي التَّيَمُّم عِنْد الْأَرْبَعَة وَتجب فِي الْوضُوء وَالْغسْل عِنْد الْإِمَامَيْنِ خلافًا لأبي حنيفَة (فرعان) (الأول) يَنْوِي المتطهر أَدَاء الْفَرْض أَو رفع حكم الْحَدث أَو اسْتِبَاحَة مَا تجب الطَّهَارَة لَهُ سَوَاء أطلق أَو عين (الثَّانِي) مَحل النِّيَّة فِي أول الطَّهَارَة وَقيل فِي أول فروضها وفَاقا للشَّافِعِيّ وَقيل يستصحب ذكرهَا من أول الطَّهَارَة إِلَى أول فرض فَإِن تَأَخَّرت عَن محلهَا أَو تقدّمت بِكَثِير بطلت وَإِن تقدّمت بِيَسِير فَقَوْلَانِ وَلَا يشْتَرط بَقَاؤُهَا ذكرا بل حكما وَفِي تَأْثِير رفضها قَولَانِ وَأما الوجبه فحده طولا من أول منابت شعر الرَّأْس الْمُعْتَاد إِلَى آخر الذقن فَلَا يدْخل الصلع وَلَا النزعتان وَحده عرضا من الْأذن إِلَى الْأذن وفَاقا للشَّافِعِيّ وَقيل من العذار إِلَى العذار وَقيل ببالأول فِي نقي الخد وَبِالثَّانِي فِي الملتحى وَانْفَرَدَ القَاضِي عبد الوهاب بقوله مَا بَين الصدغ وَالْأُذن سنة وَيجب تَخْلِيل مَا على الْوَجْه من شعر خَفِيف وَاخْتلف فِي الكثيف وَيجب إمرار الْيَد على اللِّحْيَة وَفِي وجوب تخليلها قَولَانِ وَأما اليدان فَمن أَطْرَاف الْأَصَابِع إِلَى الْمرْفقين وَيجب غسل الْمرْفقين والكعبين على الْمَشْهُور وفَاقا
1 / 19
لَهُم وَفِي تَخْلِيل أَصَابِع الْيَدَيْنِ وَالرّجلَيْنِ قَولَانِ الْوُجُوب وَالنَّدْب وَفِي إجالة الْخَاتم ثَلَاثَة أَقْوَال يفرق فِي الثَّالِثَة فيجال الضّيق دون الْوَاسِع وَبِه قَالَ ابْن حَنْبَل وَأما الرَّأْس فَيجب مسح جَمِيعه وَحده من أول منابت الشّعْر فَوق الْجَبْهَة إِلَى آخرهَا فِي الْقَفَا خلافًا لِابْنِ مسلمة فِي قَوْله يَجْزِي مسح الثُّلثَيْنِ وَلأبي الْفرج فِي الثُّلُث وَلأبي حنيفَة فِي الرّبع وَللشَّافِعِيّ بشعرة وَلَا يمسح على حَائِل خلافًا لِابْنِ حَنْبَل وَلَا فَضِيلَة فِي تكْرَار الْمسْح خلافًا للشَّافِعِيّ وَالِاخْتِيَار فِي صفة الْمسْح أَن يبْدَأ من مقدم الرَّأْس ويمر إِلَى مؤخره ثمَّ يرجع إِلَى حَيْثُ بَدَأَ وَالرُّجُوع سنة وَيجب مسح مَا طَال من الشّعْر فِي الْمَشْهُور وَأما الرّجلَانِ فالفرض غسلهمَا إِلَى الْكَعْبَيْنِ عِنْد الْجُمْهُور وَقَالَ الطَّبَرِيّ يمسحان والكعبان هما اللَّذَان فِي جَانِبي السَّاق فَفِي كل رجل كعبان وَقيل اللَّذَان عِنْد معقد الشرَاك فَفِي كل رجل كَعْب وَأما الْفَوْر فَوَاجِب مَعَ الذّكر وَالْقُدْرَة فِي الْمَشْهُور وعَلى ذَلِك أَن فرق نَاسِيا أَو عَاجِزا بنى أَو عَامِدًا ابْتَدَأَ وَقيل هُوَ سنة وأسقطه الشَّافِعِي وَأَبُو حنيفَة (الْفَصْل الثَّالِث) فِي سنَنه وَهِي سِتّ غسل الْيَدَيْنِ قبل ادخالهما فِي الْإِنَاء والمضمضة وَالِاسْتِنْشَاق والاستنثار وَمسح الْأُذُنَيْنِ وَالتَّرْتِيب فَأَما غسل الْيَدَيْنِ قبل إدخالهما الْإِنَاء فمسنون عِنْد الثَّلَاثَة لكل متوضىء أَو مغتسل طَاهِر الْيَدَيْنِ من النَّجَاسَة وأوجبه الظَّاهِرِيَّة عِنْد الْقيام من النّوم وَابْن حَنْبَل من نوم اللَّيْل خَاصَّة وَهل غسلهمَا للتعبد أَو للنظافة فِي ذَلِك قَولَانِ يبْنى عَلَيْهِمَا فرعان وهما هَل يغسلهما مجموعتين أَو متفرقتين وَهل يُعِيد غسلهمَا إِذا أحدث فِي أثْنَاء الطَّهَارَة أَولا وَفِي كل وَاحِد مِنْهُمَا قَولَانِ وَأما الْمَضْمَضَة فَسنة فِي الْوضُوء عِنْد الْأَرْبَعَة وَأما الِاسْتِنْشَاق والاستنثار فسنتان عِنْد الثَّلَاثَة فِي الْوضُوء وأوجبهما ابْن حَنْبَل وَصفَة الْمَضْمَضَة أَن يخضخض المَاء فِي فَمه ثمَّ يمجه وَصفَة الِاسْتِنْشَاق أَن يَجْعَل إبهامه وسبابته على أَنفه ثمَّ ينثر برِيح الْأنف وَيجوز أَن يتمضمض ويستنشق من غرفَة وَاحِدَة أَو من غرفتين فَأكْثر وَأما الأذنان فتمسحان عِنْد الْأَرْبَعَة وَقَالَ قوم تغسلان مَعَ الْوَجْه ومسحهما سنة عِنْد الْإِمَامَيْنِ وأوجبه أَو حنيفَة ويجدد المَاء لَهما خلافًا لأبي حنيفَة وَأما التَّرْتِيب فسنع فِي الْمَشْهُور وفَاقا لأبي حنيفَة وَقيل وَاجِب وفَاقا للشَّافِعِيّ (الْفَصْل الرَّابِع) فِي فَضَائِل الْوضُوء ومكروهاته أما فضائله فست (الأولى) السِّوَاك قيل وأوجبه الظَّاهِرِيَّة وَالْعود الْأَخْضَر أحسن الا للصَّائِم فَإِن لم يجد عودا استاك بإصبعه (الثَّانِيَة) التَّسْمِيَة فِي أَوله وَقيل بإنكارها وأوجبها قوم خلافًا للأربعة (الثَّالِثَة) تكْرَار المغسولات مرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا وَالثَّلَاث أفضل (الرَّابِعَة) الِابْتِدَاء بالميامن قبل المياسر (الْخَامِسَة) الِابْتِدَاء بِمقدم الرَّأْس (السَّادِسَة) ذكر الله فِي أثْنَاء الْوضُوء وَأَن يَقُول فِي آخِره أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله ﷺ اللَّهُمَّ اجْعَلنِي من اتوابين واجعلني من المتطهرين وَزَاد الشَّافِعِي مسح الرَّقَبَة وَأما جعل الْإِنَاء على الْيَمين
1 / 20
فَذَلِك أمكن لَهُ وَأما مكروهاته فست وَهِي الْوضُوء فِي الْخَلَاء وَالْكَلَام بِغَيْر ذكر الله تَعَالَى والاكثار من صب المَاء والاقتصار على مرّة وَاحِدَة فِي المغسولات إِلَّا للْعَالم بِالْوضُوءِ وَالزِّيَادَة على الثَّلَاث وَالْوُضُوء فِي أواني الذَّهَب وَالْفِضَّة وَقيل فِي هَذَا أَنه حرَام وَالْمسح بالمنديل جَائِز وَاسْتحبَّ الشَّافِعِي تَركه «تَنْبِيه» لَا بُد فِي غسل الْوَجْه وَالْيَدَيْنِ وَالرّجلَيْنِ من نقل المَاء إِلَيْهِمَا والتدليك بِالْيَدِ مَعَ المَاء فَلَا يجوز أَن يُرْسل المَاء من يَده قبل وُصُوله إِلَى الْعُضْو لِأَن ذَلِك مسح وَلَا أَن يوصله من غير تدلك وَلَا أَن يدلكه بعد ذهَاب المَاء عَنهُ وَيجب أَن يتفقد الْمَوَاضِع الْخفية كأسارير الْجَبْهَة ومارن الْأنف وَمَا غَار من الأجفان وشقاق الْيَد وَالرجل وَتَحْت أَصَابِع الرجل وأطراف الْأَظْفَار «فرع» من نسي شَيْئا من فَرَائض الْوضُوء فَإِن ذكر بعد أَن جف وضوؤه فعل مَا ترك خَاصَّة وَأَن ذكر قبل أَن يجِف وضوؤه ابْتَدَأَ الْوضُوء قَالَ الطليطلي أَنه يُعِيد الَّذِي نسي وَمَا بعده وَلَا يبتدىء الْوضُوء وَهُوَ الصَّحِيح وَالله أعلم وَكَذَلِكَ أَن تَركه عَامِدًا وان كَانَ صلى أعَاد الصَّلَاة فِي الْعمد وَالنِّسْيَان وَمن ترك سنة نَاسِيا صحت صلَاته وَفعل مَا نسي لما يسْتَقْبل فَإِن تَركهَا عَامِدًا فَهُوَ كالناسي وَقيل تبطل صلَاته لتهاونه وان ترك فَضِيلَة فَلَا شَيْء عَلَيْهِ
الْبَاب الثَّانِي فِي نواقض الْوضُوء وَفِيه فصلان
«الْفَصْل الأول» فِي النواقض فِي الْمَذْهَب وَهِي ثَلَاثَة الْأَحْدَاث والأسباب والارتداد فَأَما الْأَحْدَاث فَهِيَ الْخَارِج الْمُعْتَاد من السَّبِيلَيْنِ وَذَلِكَ خَمْسَة أَشْيَاء الْبَوْل وَالْغَائِط وَالرِّيح بِصَوْت وَبِغير صَوت والوادي وَهُوَ مَاء أَبيض خاثر يخرج بأثر الْبَوْل والمنى وَهُوَ مَاء أَبيض رَقِيق يخرج عِنْد الالتذاذ فروع ثَلَاثَة «الْفَرْع الأول» إِن خرج الْحَدث من أحد المخرجين على وَجه الصِّحَّة نقض الْوضُوء إِجْمَاعًا وَإِن خرج من غير المخرجين فَفِيهِ قَولَانِ وَإِن خرج خَارج غير مُعْتَاد كالحصى والدود من أَحدهمَا لم ينْقض الْوضُوء خلافًا لِابْنِ عبد الحكم وَله «الْفَرْع الثَّانِي» إِن خرج الْبَوْل والمني على وَجه السلس الملازم لم ينْقض خلاقا لَهما فَإِن قدر صَاحب السلس على رَفعه بمداواة أَو نِكَاح فَفِي نقضه قَولَانِ وَإِذا مذى صَاحب السلس أَو بَال بَوْل الْعَادة وَجب عَلَيْهِ الْوضُوء وَيعرف ذَلِك بِأَن مذي الْمَادَّة بِشَهْوَة وَبَوْل الْمَادَّة يكثر وَيُمكن إِمْسَاكه «الْفَرْع الثَّالِث» من تَيَقّن الطَّهَارَة ثمَّ شكّ فِي الْحَدث فَعَلَيهِ الْوضُوء خلاقا لَهُم وَإِن تَيَقّن الْحَدث وَشك فِي الطَّهَارَة فَعَلَيهِ الْوضُوء وَأما أَسبَاب الْأَحْدَاث فَمِنْهَا السكر وَالْجُنُون والاغماء تنقض الْوضُوء بِإِجْمَاع سَوَاء كَانَت قَليلَة أَو كَثِيرَة وَمِنْهَا النَّوْع وَفِيه طريقتان (الأولى) النّظر إِلَى هيأة النَّائِم فَإِن كَانَت لَا يتهيأ مَعهَا خُرُوج الْحَدث كالجالس لم ينْقض بِخِلَاف المضطجع وفَاقا لَهما (الثَّانِيَة) النّظر إِلَى النّوم وَهُوَ أَرْبَعَة
1 / 21
أَقسَام فالطويل الثقيل ينْقض وَعَكسه لَا ينْقض وَفِي الطَّوِيل الْخَفِيف وَفِي عَكسه قَولَانِ وَمِنْهَا لمس النِّسَاء فَإِن كَانَ بلذة نقض وَإِن كَانَ دونهَا لم ينْقض سَوَاء كَانَ من وَرَاء ثوب أم لَا وَسَوَاء كَانَ لزوجته أَو أَجْنَبِيَّة وَيَسْتَوِي فِي اعْتِبَار اللَّذَّة اللامس والملموس وينقض الْوضُوء عِنْد الشَّافِعِي مُطلقًا وَلَا ينْقض الْوضُوء عِنْد أبي حنيفَة مُطلقًا فَإِن قصد اللَّذَّة وَلم يجدهَا فَقَوْلَانِ مبنيان على الرَّفْض وَلَا يشْتَرط وجودهَا فِي الْقبْلَة على الْمَشْهُور وَمنا مس الذّكر والمراعى فِيهِ بَاطِن الْكَفّ والأصابع وَقيل اللَّذَّة وينقض عِنْد الشَّافِعِي مُطلقًا وَلَا ينْقض عِنْد أبي حنيفَة مُطلقًا وَفِي مَسّه من وَرَاء حَائِل خلاف وَلَا ينْقض مس ذكر صبي خلافًا للشَّافِعِيّ وَلَا بَهِيمَة وَمِنْهَا مس الْمَرْأَة فرجهَا وَفِيه ثَلَاث رِوَايَات فَقيل ينْقض وفَاقا للشَّافِعِيّ وَعَدَمه وفَاقا لأبي حنيفَة وَالْفرق بَين أَن تلطف أم لَا وَأما مس الدبر فَلَا ينْقض خلافًا لحمديس وَالشَّافِعِيّ وَأما الانعاظ دون مذي فَفِيهِ قَولَانِ وَأما الارتداد فينقض فِي الْمَشْهُور وَقيل لَا ينْقض وفَاقا للشَّافِعِيّ (الْفَصْل الثَّانِي) فِي النواقض خَارج الْمَذْهَب ينْقض الْقَيْء والقلس والرعاف والحجامة وَخُرُوج الْقَيْح عِنْد أبي حنيفَة وَابْن حَنْبَل والقهقة فِي الصَّلَاة عِنْد أبي حنيفَة وَأكل لُحُوم الْإِبِل نيا أَو مطبوخا عِنْد ابْن حَنْبَل وَأكل مَا مست النَّار عِنْد بعض السّلف ثمَّ أجمع على نسخه وَحمل الْميتَة عِنْد ابْن حَنْبَل وَذبح الْبَهَائِم عِنْد الْحسن الْبَصْرِيّ وَلم يَصح عَنهُ وَمَسّ الْأُنْثَيَيْنِ عِنْد عُرْوَة بن الزبير وَمَسّ الإبطين عِنْد ابْن عمر وَلم يَصح عَنهُ
الْبَاب الثَّالِث فِي الِاغْتِسَال وَفِيه أَرْبَعَة فُصُول
(الْفَصْل الأول) فِي أَنْوَاع الْغسْل وَهُوَ وَاجِب وَسنة ومستحب فَالْوَاجِب من الْجَنَابَة وَالْحيض وَالنّفاس والاسلام وَالسّنة الْغسْل للْجُمُعَة وأوجبه الظَّاهِرِيَّة وللعيدين وللإحرام بِالْحَدِّ ولدخول مَكَّة وَغسل الْمَيِّت وَقيل بِوُجُوبِهِ وَالْمُسْتَحب الْغسْل للطَّواف وَالسَّعْي بَين الصَّفَا والمروة وللوقوف بِعَرَفَة والمزدلفة وَالْغسْل من دم الِاسْتِحَاضَة واغتسال من غسل الْمَيِّت (الْفَصْل الثَّانِي) فِي فَرَائِضه وَهِي خَمْسَة النِّيَّة خلافًا لأبي حنيفَة وتعميم الْبدن بِالْمَاءِ إِجْمَاعًا والتدلك فِي الْمَذْهَب خلاقا لَهُم والفور مَعَ الذّكر وَالْقُدْرَة خلافًا لَهما وتخليل اللِّحْيَة وفَاقا للشَّافِعِيّ وَقيل سنة (الْفَصْل الثَّالِث) فِي سنَنه وَهِي خمس غسل الْيَدَيْنِ قبل ادخالهما فِي الْإِنَاء والمضمضة وَالِاسْتِنْشَاق وأوجبهما فِي الْغسْل أَو حنيفَة وَمسح دَاخل الْأُذُنَيْنِ وتخليل شعر الرَّأْس وَقيل فَضِيلَة وأوجبه الشَّافِعِي (الْفَصْل الرَّابِع) فِي فضائله وَهِي خمس التَّسْمِيَة والغرف على الرَّأْس ثَلَاثًا وَتَقْدِيم الْوضُوء والبداءة بِإِزَالَة الْأَذَى قبل الْوضُوء والبداءة بالأعالي
1 / 22
والميامن ومكروهاته خمس الْإِكْثَار من صب المَاء والتنكيس فِي عمله وتكرار غسل الْجَسَد إِذا أوعب والاغتسال فِي الْخَلَاء وَالْكَلَام بِغَيْر ذكر الله وَصفته أَن يبْدَأ بِغسْل يَدَيْهِ ثمَّ يزِيل مَا على يَدَيْهِ من الْأَذَى ثمَّ يغسل فرجه من الْجَنَابَة لِئَلَّا يمسهُ بعد الْوضُوء ثمَّ يتَوَضَّأ وضوءه للصَّلَاة وَيجوز أَن يُؤَخر غسل رجلَيْهِ إِلَى آخر غسله ثمَّ يخلل أصُول الشّعْر بِيَدِهِ ثمَّ يفِيض عرى رَأسه ثَلَاث غرفات وتضغث الْمَرْأَة شعر رَأسهَا المظفور وَلَيْسَ علها حل عقاصها خلافًا للشَّافِعِيّ ثمَّ يغسل سَائِر جسده فروع خَمْسَة (الْفُرُوع الأول) يجب أَن يتفقد الْمَوَاضِع الْخفية كتحت الذن والإبطين وأصول الفخذين وَتَحْت الرُّكْبَتَيْنِ وعمق السُّرَّة وَغير ذَلِك (الْفَرْع الثَّانِي) من انْتقض وضوءه أثْنَاء غعسله أعَاد الْوضُوء وَاخْتلف هَل ينويه أم لَا (الْفَرْع الثَّالِث) يجزىء الْحَائِض الْجنب غسل وَاحِد للْحيض والجنابة وتنوب نِيَّة الْغسْل عَن الْوضُوء لدُخُوله تَحْتَهُ بِخِلَاف الْعَكْس (الْفَرْع الرَّابِع) إِذا اغْتسل لجنابة وَالْجُمُعَة فَفِي ذَلِك صور الأولى أَن يَنْوِي الْجَنَابَة ويتبعها الْجُمُعَة ليجزيه عَنْهُمَا اتِّفَاقًا (الْفَرْع الْخَامِس) تَغْتَسِل الذمسة تَحت الْمُسلم من الْحيض لحق الزَّوْج وَإِن لم تكن لَهَا نِيَّة ويجبرها الزَّوْج أَو السَّيِّد على الْغسْل من الْحيض لَا من الْجَنَابَة عِنْد ابْن الْقَاسِم وَقَالَ أَشهب لَا يجبرها
الْبَاب الرَّابِع فِي مُوجبَات الْغسْل
وَهِي الْجَنَابَة وَالدُّخُول فِي الْإِسْلَام وَانْقِطَاع دم الْحيض وَالنّفاس وَسَيَأْتِي فِي بَابه فَأَما الْجَنَابَة فَثَلَاثَة أَنْوَاع الْإِنْزَال فِي الْيَقَظَة ومغيب الْحَشَفَة والاحتلام فَأَما الْإِنْزَال فَهُوَ خُرُوج المنى والمنى المَاء الدافق وَهُوَ أَبيض خاثر رَائِحَته كرائحة الطّلع أَو الْعَجِين فَإِن خرج بلذة مُعْتَادَة من الْجِمَاع فَمَا دونه وَجب الْغسْل إِجْمَاعًا وَإِن خرج بِغَيْر لَذَّة أَو بلذة غير معتاذة كحك الْجَسَد والاغتسال بِالْمَاءِ الْحَار أَو بِأَمْر مؤلم كالضرب لم يجب الْغسْل وَقيل يجب وفَاقا للشَّافِعِيّ ونفيه والتفرقة بَين أَن يكون جَامع واغتسل لَهُ قبل خُرُوج المنى فَلَا يُعِيد الْغسْل وَبَين وَأَن يكون لم يغْتَسل فيغتسل وَحَيْثُ قُلْنَا لَا يجب الْغسْل فَفِي وجوب الْوضُوء واستحبابه قَولَانِ وَأما مغيب الْحَشَفَة أَو قدرهَا فِي قبل أَو دبر من بَهِيمَة أَو آدَمِيّ فموجب للْغسْل أنزل أم لم ينزل إِجْمَاعًا بعد خلاف بَين السّلف إِذْ قد نسخ إِنَّمَا المَاء من المَاء
1 / 23
فَوَائِد
أعلم أَن مغيل الْحَشَفَة أَو قدرهَا كَمَا يُوجب الْغسْل يُوجب الْحَد فِي الزِّنَى ويحصن الزَّوْجَيْنِ وَيفْسد الصّيام الْوَاجِب والتطوع وَيُوجب الْكَفَّارَة فِي رَمَضَان وَيُوجب على الرجل الْكَفَّارَة عَن الْمَرْأَة إِذا أكرهها وَيفْسد تتَابع الصَّوْم فِي الْكَفَّارَة وَيفْسد الْحَج إِذا كَانَ قبل الْوُقُوف بِعَرَفَة وَيُوجب الْعمرَة وَالْهَدْي إِذا كَانَ بعد جَمْرَة الْعقبَة وَقبل الْإِفَاضَة وَيُوجب الْهَدْي إِذا كَانَ بعد الْإِفَاضَة وَقبل جَمْرَة الْعقبَة لمن أخر رميها وَيفْسد الِاعْتِكَاف وَيفْسد الْعمرَة وَيُوجب إحجاج الْمَرْأَة إِذا أكرهها وَيُوجب بر من حلف أَن يطَأ وَيُوجب حنث من حلف أَن لَا يطَأ وَيُوجب الْقيمَة على الْأَب فِي وَطْء جَارِيَة ابْن ابْنه وَيُوجب الْقيمَة على الْغَاصِب لرقبة الْجَارِيَة وَيُوجب الْقيمَة على أحد الشَّرِيكَيْنِ إِذا وطأ الْجَارِيَة الْمُشْتَركَة وَيقطع عصمَة الزَّوْج الْمَفْقُود إِذا دخل بهَا الثَّانِي وَيقطع رَجْعَة الزَّوْج الأول الَّذِي ارتجعها وَلم يعلم وَيصِح بِهِ نِكَاح الزَّوْج الثَّانِي إِذا زَوجهَا وليان من رجلَيْنِ وَلم يعلم أَحدهمَا بِالْآخرِ وَيصِح بِهِ شِرَاء المُشْتَرِي الثَّانِي إِذا بَاعهَا سَيِّدهَا أَو وَكيله من رجلَيْنِ وَلم يعلم أَحدهمَا بِالْآخرِ وَيُوجب تَحْرِيم الربيبة وَيُوجب فسخ نِكَاح الْبِنْت إِذا تزوج الْأُم وأولج فِيهَا وَيُوجب تَحْرِيم الْأُخْت الثَّانِيَة بِملك الْيَمين وَتَحْرِيم الْعمة على بنت أَخِيهَا بِملك الْيَمين وَتَحْرِيم الْخَالَة على بنت أُخْتهَا بِملك الْيَمين وَيُوجب تَحْرِيم الْمَنْكُوحَة فِي الْعدة وَيُوجب الصَدَاق كَامِلا وَيُوجب الصَدَاق على الْغَاصِب وَالزَّانِي وَيصِح بِهِ النِّكَاح إِذا عقد بِصَدَاق فَاسد وَيُوجب استيمار الْبِنْت إِذا زَوجهَا أَبوهَا بعده وَيُوجب الْعدة وَيُوجب اسْتِبْرَاء الْأمة وَيُوجب الْخِيَار للَّتِي يشرط لَهَا زَوجهَا أَن لَا يتسى عَلَيْهَا وَيقطع خِيَار الْأمة إِذا عتقت تَحت العَبْد وَيُوجب كَفَّارَة الظِّهَار وَيُوجب ابْتِدَاء كَفَّارَة الظِّهَار إِذا وطأ بعد أَن شرع فِيهَا وَيسْقط الْإِيلَاء عَن الْمولى وَيُوجب إِسْقَاط اللّعان وَيُوجب الْحَد على الْملَاعن إِذا وطأ بعد الدَّعْوَى وَيسْقط نَفَقَة الْبِنْت عَن أَبِيهَا إِذا طلقت وَيصِح بِهِ البيع الْفَاسِد فِي الْجَارِيَة وَيسْقط بِهِ الْخِيَار فِي بيع الْأمة وَيسْقط الْقيام بِالْعَيْبِ فِي الْأمة وَيسْقط اعتصار الْأَب فِي الْهِبَة وَيُوجب الْقيمَة فِي هَدِيَّة الثَّوَاب فَذَلِك خَمْسُونَ حكما تَلْخِيص أَحْكَام الْوَطْء أَرْبَعَة أَقسَام قسم يتَعَلَّق بِالْوَطْءِ الْحَلَال فِي النِّكَاح لَا بِالشُّبْهَةِ وَلَا بالحرام كالإحلال والإحصان وَقسم يتَعَلَّق بالحلال وبالشبهة لَا بالحرام كالنسب وَالْعدة والصدق الْكَامِل وَتَحْرِيم الْمُصَاهَرَة وَنَحْو ذَلِك وَقسم يتَعَلَّق بالحرام الْمَحْض كالحدود والآثام وَقسم بالحلال وَالْحرَام والشبهة كوجوب الْغسْل وَفَسَاد الْعِبَادَات من الصّيام وَالْحج وَالِاعْتِكَاف وَنَحْو ذَلِك وَأما الِاحْتِلَام فَيجب الْغسْل من خورج الْمَنِيّ فِي النّوم من رجل أَو امْرَأَة إِجْمَاعًا وَلَا يجنب من الِاحْتِلَام دون الْإِنْزَال إِجْمَاعًا فَإِن انتبه وَوجد بللا وَلَا يدْرِي أمني هُوَ أَو مذي وَلم يذكر احتلاما فَفِي وجوب غسله قَولَانِ وَلَو رأى فِي ثَوْبه احتلاما وَشك فِي زمن خُرُوجه فَإِن كَانَ طريا أعَاد الصَّلَاة من أقرب نومَة نامها وَإِن كَانَ يَابسا أعَاد
1 / 24