ولم يلبث الموفق طويلا حيث كان، فقد اشتد به وجع النقرس، فعاد إلى بغداد محمولا على سرير يتعاور أكتاف أربعين من غلمانه ... فبلغ بغداد في أوائل سنة 278.
وأظله الموت، ولكنه ظل يكافح ليعيش ويبلغ من أمر الدولة ما قدر ودبر، فإنه لتأخذه الغشية بعد الغشية ثم لا يلبث أن يفيق ... ورأى المحيطون به ما ينتظره من أمر الله، فأجمع كل منهم نيته على أمر، وبدا للخليفة في قصره أن قد آن له أن يملك حريته ويصير إليه أمر الدولة كله بعد أن صبر زمانا والسلطان كله في يدي أخيه الموفق، وازدحمت الأماني على ذوي السلطان فتحفز كل منهم لوثبة يكون له بها أمر.
وكان أبو العباس في سجن أبيه، قد أقام به بضع سنين يحدس ما يحدس،
105
ويدبر خطته، وإن له على ضيق السجن أملا فسيحا لا يزال يتحدث به كل يوم إلى غلامه ...
وسمع أبو العباس من وراء أبواب السجن هديدا وقعقعة سلاح وضجة تدنو منه في محبسه، وأهوت الأثقال على الأقفال تحطمها في عنف، وظن أبو العباس ما ظن فجرد سيفه وتحفز للدفاع،
106
وقال لغلامه: «أحسبهم قد جاءوا يريدون قتلي، ولا يزال بنو العباس تتربص بهم آجالهم من أجل العرش، فوالله لا يصلون إلي وفي شيء من الروح.»
وأهوت دقة حاطمة على القفل الأخير، فلم يلبث أن انفتح الباب وهم أبو العباس بأمر ثم تراجع ورد السيف إلى غمده، فقد رأى على رأس القادمين غلامه «وصيفا»، فاطمأن وسري عنه، وعلم أنهم لم يقصدوا إلا خلاصه من أسره.
وقال «وصيف» والكلمات تتواثب على شفتيه: «أدرك أباك يا مولاي فإنه يحتضر، وقد أوشك أمر الدولة أن يتفرق.» •••
Página desconocida