ولم تكن مصر وبغداد يومذاك دولتين تفصل بينهما الحدود السياسية، كما نرى في هذا الزمان، بل كانا بلدين كبيرين في دولة كبيرة تنتظمهما وتنتظم معهما بلادا أخرى، وتمتد حدودها بهما وبغيرهما امتدادا كبيرا من شاطئ الأطلسي إلى حدود الصين، وكانت بغداد عاصمة الحكم في هذه الدولة الكبيرة، وكانت مصر درة عقدها ...
هذه الدولة الكبيرة، التي كانت تنتظم مصر وبغداد وغيرهما في ذلك الزمان البعيد، هي الدولة الإسلامية الكبرى التي يسميها المؤرخون القدماء: «الدولة العباسية»؛ لأنهم يسمون الدول منسوبة إلى ملوكها، أو خلفائها، وكان خلفاء هذه الدولة من بني العباس بن عبد المطلب بن هاشم ...
على أن مصر - وهي جزء من تلك الدولة الكبيرة - كانت متميزة بطابعها الخاص عن سائر بلاد الدولة، فلم تنمح شخصيتها، ولم تزل عنها صفاتها الأصلية، وظل لها كيانها، واستقلالها، وتأثيرها البعيد المدى فيما حولها، وما بعد عنها من بلاد الدولة ...
وكان يحكم مصر - منذ صارت جزءا من الدولة الإسلامية - أمير من قبل الخليفة يسمى الوالي، يعزله الخليفة متى شاء ويولي غيره، أو يبقيه حتى يموت، وكان بجانب كل أمير يوليه الخليفة جاب للخراج، وموظف للمخابرات يسمى «صاحب البريد»، وكلاهما يتبع الخليفة في العاصمة، فليس للأمير عليهما سلطان ...
وقد ظل الأمراء يتعاقبون على حكم مصر قرنين ونصف قرن منذ فتحها «عمرو بن العاص» إلى أن وليها «أحمد بن طولون» ...
وفي عهد أحمد بن طولون بدأت مصر تاريخا جديدا، وبدأت حوادث هذه القصة ...
أما هذا التاريخ الجديد، فهو استقلال مصر عن الدولة الإسلامية ...
وأما هذه القصة فهي قصة «قطر الندى» بنت خمارويه بن أحمد بن طولون ...
في ذلك التاريخ صارت مصر دولة مستقلة ذات سيادة، وذات جيش وراية، وذات مال وجاه وسلطة ...
وفي تلك القصة كانت العوامل السياسية، والعوامل الاقتصادية، والعوامل الإنسانية التي مهدت لذلك الاستقلال وأعانت عليه ثم تطورت به فقضت عليه ...
Página desconocida