وكان إسماعيل لطيف يتفحص كمال من طرف خفي ... رأسه، وأنفه، وعنقه الطويل، وقامته النحيلة، وكأنما كان يتخيل أثر هذه الصورة في التلاميذ عامة وفي أشقيائهم خاصة، فما ملك أن غمغم: تلك لعمري كارثة!
أما حسين شداد، فعاد يقول في لطف وشى بميله إلى كمال: الوظيفة شيء ثانوي عند ذوي الأهداف البعيدة، على أنه لا ينبغي أن ننسى أن نخبة من نابهي مصر قد تخرجوا في المدرسة.
انقطع حديث المدرسة عند ذاك، فساد الصمت، وحاول كمال أن يلقي بروحه في أحضان الحديقة، غير أن الحديث ترك في رأسه حرارة كان عليه أن ينتظر حتى تبترد، وسنحت منه نظرة ، فرأى دورق الماء المثلوج على المائدة، فخطرت له خاطرة قديمة طالما منته بالسعادة في مثل ظرفه هذا، أن يملأ كوبا ويشربه لعله يلمس بشفتيه موضعا منه يكون قد اتفق أن لمسته شفتاها وهي تشرب مرة. فقام إلى المائدة، وملأ من الدورق كوبا وشربه، ثم عاد إلى مجلسه مركزا انتباهه في نفسه وهو يترقب، كأنما كان ينتظر - فيما لو حالفه الحظ فأصاب الهدف - أن يتغير شأنه، أن تنبثق من روحه قوة سحرية لا عهد له بها، أن ينتشي بنشوة إلهية يرقى بها في معارج السموات السعيدة، ولكنه، أجل، ولكنه قنع في النهاية بلذة المغامرة وبهجة الأمل، ثم راح يتساءل في قلق: متى تجيء؟ ... هل يمكن أن تلحق هذه الفترة الواعدة بأشهر الفراق الثلاثة الماضية؟ ... وعادت عيناه إلى الدورق، فطافت به ذكرى حديث قديم دار بينه وبين إسماعيل لطيف عن هذا الدورق، أو بالحري عن الماء المثلوج الذي لا يقدم إليهم شيء خلافه في سراي شداد. وكان إسماعيل قد أشار - وهو بصدد الحديث عن ذلك - إلى النظام الاقتصادي الدقيق الذي تخضع له السراي من السطح إلى البدروم، وتساءل: أليس ذلك نوعا من البخل؟ غير أن كمال أبى أن توصم أسرة معبودته بما يشين، فدفع عنها التهمة مستشهدا ببذخها، وخدمها، وحشمها، والسيارتين اللتين تملكهما: المنيرفا، والفيات التي يكاد يختص بها حسين، فكيف تتهم بعد ذلك بالبخل؟ هنالك قال إسماعيل - ولم يكن يعوزه طول اللسان - إن البخل أنواع، وإنه لما كان شداد بك مليونيرا بكل معنى الكلمة، فإنه رأى لزاما عليه أن يحيط نفسه بمظاهر الجاه، ولكنه اكتفى بما يعد في «بيئته» من الضروريات. أما القاعدة المتبعة التي لا يحيد عنها فرد من الأسرة، فهي ألا يتسامح في إنفاق مليم واحد في غير موضعه وبلا موجب ... الخدم يتناولون أدنى الأجور ويأكلون أقل الطعام: وإن كسر أحدهم طبقا خصم ثمنه من مرتبه. حسين شداد نفسه فتى الأسرة الوحيد لا يعطى مصروفا أسوة بأمثاله من الأبناء أن يتعود بعثرة النقود بلا ضرورة، أجل ربما ابتاع له أبوه كل عيد عددا من الأسهم أو السندات، ولكنه لا يعطيه قرشا في يده ... أما زوار النجل العزيز، فلا يقدم لهم إلا الماء المثلوج! ... أليس هذا بخلا، وإن يكن بخلا أرستقراطيا؟ ذكر كمال ذلك الحديث وهو ينظر إلى الدورق، وتساءل كما تساءل قديما في ارتياع: أمن الممكن أن ترتقي إلى أسرة معبودته هنة من الهنات؟ أبى قلبه أن يصدق هذا إباء من ينزه الكمال عن المآخذ وإن هانت، بيد أنه خيل إليه أن ثمة شعورا بما يشبه الارتياح يعابثه هامسا في أذنه: «لا تفزع، أليس هذا النقص إن صح مما ينزلها ولو درجة إليك، أو يرفعك ولو درجة إليها؟» ومع أنه وقف من أقوال إسماعيل موقف التحفظ والارتياب، فإنه وجد نفسه يعيد النظر وهو لا يدري في «رذيلة» البخل، فيقسمها إلى نوع دنيء وآخر ليس إلا سياسة حكيمة تمد الحياة الاقتصادية بأسس بارعة من النظام والدقة، فمن الإسراف كل الإسراف تسميته بخلا أو اعتباره رذيلة، كيف لا، وهو لا يتعارض مع تشييد القصور، واقتناء السيارات، واتخاذ كافة مظاهر البذخ والبلهنية؟ كيف لا، وهو يصدر عن نفوس سامية مطهرة من الخبائث والضعة؟
استيقظ من أفكاره على يد إسماعيل لطيف وهي تقبض على ذراعه وتهزه، ثم سمعه وهو يقول مخاطبا حسن سليم: حذار، ها هو مندوب الوفد يرد عليك.
أدرك من فوره أنهم طرقوا حديث السياسة وهو عنهم ساه، حديث السياسة ... ما أشقه وما ألذه! دعاه إسماعيل «مندوب الوفد» فلعله يتهكم، فليتهكم ما شاء له أن يتهكم، الوفد عقيدة تلقاها عن فهمي، واقترنت في قلبه باستشهاده وتضحيته. نظر إلى حسن سليم، وقال باسما: أيها الصديق الذي لا تبهره إلا العظة، ماذا قلت عن سعد؟
لم يبد حسن سليم أنه اكترث لحديث العظمة، ولم يكن كمال يتوقع غير ذلك، فطالما صاوله حتى وقف على رأيه العنيد المتعجرف - ولعله رأي أبيه المستشار أيضا - في سعد زغلول الذي يكاد هو من حب وإخلاص أن يقدسه. لم يكن سعد زغلول إلا مهرجا شعبيا في نظر حسن سليم، وكان يردد هذا الوصف في تقزز وازدراء مثيرين خارقا المعتاد من أدبه ودماثته، ثم يمضي في السخرية من سياسته ومأثوراته البلاغية، منوها في الوقت نفسه بعظمة عدلي، وثروت، ومحمد محمود، وغيرهم من الأحرار الدستوريين الذين لم يكونوا في نظر كمال إلا «خونة»، أو إنجليز مطربشين. أجاب حسن سليم بهدوء: كنا نتحدث عن المفاوضات التي لم تستمر إلا ثلاثة أيام، ثم قطعت.
فقال كمال بحماس: يا له من موقف وطني جدير بسعد حقا! طالب بحقوقنا الوطنية مترفعا عن المساومة. ثم قطع المفاوضة حين وجب قطعها، وقال قولته الخالدة: «لقد دعونا إلى هنا لكي ننتحر، ولكننا رفضنا الانتحار، وهذا كل ما جرى.»
قال إسماعيل لطيف، وكان يجد في السياسة مادة للعبث: لو قبل أن ينتحر لتوج حياته بأجل خدمة يمكن أن يؤديها إلى بلاده.
انتظر حسن سليم حتى فرغ إسماعيل وحسين من الضحك، ثم قال: ماذا أفدنا من هذه المأثورة؟ ليست الوطنية عند سعد إلا نوعا من البلاغة التي تستهوي العامة «لقد دعونا إلى هنا لكي ننتحر ... إلخ، إلخ!» «يعجبني الصدق في القول ... إلخ، إلخ!» ... كلام في كلام، هنالك رجال لا يتكلمون ولكنهم يعملون في صمت، وقد حققوا للوطن الفائدة الوحيدة التي جناها في تاريخه الحديث.
احتدم الغيظ في قلب كمال، ولولا ما يكنه لحسن من احترام لشخصيته وسنه لانفجر، وعجب كيف يتابع «شاب» مثله أباه - وهو من جيل قديم على أي حال - في انحرافه السياسي. - أنت تقلل من شأن الكلام كأنه لا شيء، الحق أن أخطر ما تمخض عنه تاريخ البشرية من جلائل الأمور يمكن إرجاعه في النهاية إلى كلمات، الكلمة العظيمة تتضمن الأمل والقوة والحقيقة، نحن نسير في الحياة على ضوء كلمات، على أن سعد ليس صانع كلمات فحسب، إن سجله حافل بالأعمال والمواقف.
Página desconocida