مد حسين بصره إلى بعيد متفكرا قبل أن يجيب، فأتاح لكمال فرصة كي يتوسمه. شد ما تفتنه فكرة أنه شقيقها؛ أي إن بينهما ما قام يوما بينه وبين خديجة وعائشة من مخالطة وألفة، تصور يعز عليه أن يعتنقه، لكنه يجالسها، ويحادثها، وينفرد بها، ويلمسها، يلمسها؟! ويؤاكلها! ترى كيف تتناول طعامها؟ هل تتمطق؟ هل تأكل الملوخية والمدمس مثلا؟ ما أبعد هذا عن التصور أيضا! المهم أنه شقيقها، وأنه - كمال - يلمس يده التي تلمس يدها، لو أتيح له أن يشم أنفاسه التي تماثل ولا شك أنفاسها؟ أجاب حسين شداد: مدرسة الحقوق بصفة مؤقتة.
ألا يحتمل أن يتخذ من فؤاد جميل الحمزاوي صديقا؟ لم لا؟ لا شك أن الحقوق مدرسة جليلة الشأن حقا ما دام حسين سيلتحق بها، من المجازفة أن تحاول إقناع الناس بقيمة مثال معنوي.
قال إسماعيل لطيف ساخرا: لم أكن أعلم أن من الطلاب من يلتحق بمدرسة ما بصفة مؤقتة! حدثنا عن هذا من فضلك.
قال حسين شداد جادا: جميع المدارس عندي سواء، ليس في هذه المدرسة أو تلك ما يجذبني إليها. حقا أريد أن أتعلم، ولكني لا أريد أن أعمل، ولن أجد في مدرسة من مدارسنا ما أبتغيه من علم لا يراد به عمل، ولكني لم أظفر في بيتنا بشخص يوافقني على رأيي، ولا أرى مناصا من أن أجاريهم إلى حد ما. وساءلتهم أي مدرسة تختارون؟ فأجاب أبي وهل يوجد غير الحقوق! فقلت إذن فلتكن الحقوق.
إسماعيل لطيف محاكيا لهجته وحركاته: بصفة مؤقتة.
ضحك عام، ثم استطرد حسين شداد قائلا: أجل بصفة مؤقتة أيها المشاكس، فمن غير المستبعد إذا سارت الأمور على ما أشتهي أن أقطع دراستي المحلية كي أسافر إلى فرنسا، ولو بحجة دراسة القانون في معاهدها، وهناك أنهل من منابع الثقافات بغير قيد، وهنالك أفكر وأرى وأسمع.
إسماعيل لطيف مصرا على محاكاة لهجته وحركاته، وكأنما يتم ما ظن أن الآخر سكت عنه: وأذوق، وألمس، وأشم ...!
واصل حسين شداد حديثه بعد فاصل ضحك قائلا: ثق بأن مقصدي غير ما تحلم به.
صدقه كمال بكل قلبه بلا حاجة إلى دليل؛ لا لأنه يكرمه عن شبهة الكذب فحسب، ولكن لأنه يؤمن بأن الحياة التي يتطلع إلى الاستمتاع بها في فرنسا خليقة «وحدها» باستهواء النفوس، هيهات أن يدرك إسماعيل هذه الحقيقة على بساطتها، لا هو ولا أضرابه ممن لا يؤمنون إلا بالأرقام والمظاهر، طالما أثار حسين أحلامه، هذا حلم منها يمتاز بالرحابة والجمال، حلم عامر بثمار الروح، والفكر، والسمع، والبصر، كم طاف بي في نومي، أو في يقظتي، ثم بعد شدة التطلع وطول السعي انتهى المطاف بي وبه إلى مدرسة المعلمين، وسأل حسين: أتعني حقا ما قلت من أنك لا تريد أن تعمل؟
فقال حسين شداد وفي عينيه السوداوين الجميلتين نظرة حالمة: لن أكون مضاربا في البورصة كأبي؛ لأني لا أطيق حياة العمل المتواصل جوهرها، والمال غايتها، ولن أكون موظفا، لأن الوظيفة عبودية في سبيل الرزق، ورزقي موفور. أريد أن أحيا في الدنيا سائحا، أقرأ، وأرى، وأسمع، وأفكر، وأنتقل من جبل إلى سهل، ومن سهل إلى جبل.
Página desconocida