اعتراه الارتباك حتى اختطف لونه، وهو يقول: لم يكن من الممكن أن يغيب عني هذا، ولكنه وهم لا أصل له، فإني أعرف عن يقين أن المرحوم لم يهتم بالأمر كله إلا أياما معدودات، ثم نسيه نسيانا تاما، وأكاد أجزم بأنه ارتاح فيما بعد إلى فشل مسعاه؛ إذ اقتنع بأن الفتاة لم تكن طلبته كما توهم.
ترى أيقول ياسين الحق، أم يدافع عن موقفه؟ كان نجي المرحوم، ولعله الشخص الوحيد الذي يستطيع أن يزعم أنه مطلع على ما لا علم للآخرين به من خاصة شئونه، فليته كان صادقا، أجل، ليته كان صادقا إذن لأعفاه من عذاب يؤرقه كلما ذكر أنه وقف يوما عثرة في سبيل سعادة الفقيد، أو كلما خطر بباله أنه ربما مات تعيس القلب، أو ناقما عليه استبداده وتعنته، تلك الآلام التي نهشت قلبه، هل يريد ياسين أن يعفيه منها؟
سأل ياسين بلهفة لم يفطن الشاب إلى عمقها: أأنت حقا على يقين مما تقول؟ هل صارحك به؟
ولثاني مرة في حياته رأى ياسين أباه على حال من الانكسار لم يشهد مثلها إلا يوم مصرع فهمي، وهو يقول له: كاشفني الحقيقة عارية عن كل تخفيف، الحقيقة الكاملة، هذا يهمني فوق ما تتصور (وكاد يعترف له بألمه، ولكنه أمسك الاعتراف وهو على طرف لسانه)، الحقيقة الكاملة يا ياسين.
فقال ياسين دون تردد: إني على يقين مما أقول، خبرته بنفسي وسمعته بأذني، لا شك في ذلك مطلقا.
في ظروف أخرى لم يكن هذا القول - ولا أبلغ منه - كافيا لإقناعه بصدق ياسين، لكنه كان في الحق متعطشا إلى تصديقه، فصدقه وآمن به، وامتلأ قلبه نحوه بامتنان عميق وسلام شامل، لم تعد مسألة الزواج - في تلك اللحظة على الأقل - مما يكربه، ولاذ بالصمت مليا هانئا بالسلام الذي غمر قلبه، ورويدا رويدا مضى يسترد شعوره بالموقف ويرى ياسين بعد أن غيبه عن عينيه الانفعال، فعاد يفكر في مريم وأم مريم وزواج ياسين وواجبه، وما يستطيع قوله وما لا يستطيع قوله، قال: مهما يكن من أمر فإني أود أن تولي المسألة تفكيرا أعمق وحذرا أشد، لا تتعجل، مد لنفسك فسحة التدبر والمراجعة، إنها مسألة مستقبل وكرامة وسعادة، وإني على استعداد لأن أختار لك بنفسي مرة أخرى إذا وعدتني وعد رجل صادق ألا تجعلني أندم على تدخلي لما فيه صلاحك، هه؟ ما رأيك؟
صمت ياسين متفكرا، مستاء من تحول الحديث إلى مجرى ضيق محفوف بالحرج، حقا أن الرجل يتحدث بحلم عجيب، ولكنه لم يخف قلقه وعدم ارتياحه، فإذا أصر على رأيه بعد ذلك فقد يجرهما النقاش إلى شقاق غير مستحب، ولكن هل ينكص تفاديا من هذه العاقبة؟ كلا، لم يعد طفلا سيتزوج بمن يشاء كما يشاء، ولكن فليعنه الله على الاحتفاظ بمودة أبيه، قال: لا أريد أن أجشمك تعبا جديدا، شكرا لك يا بابا، غاية ما أتمنى أن أحظى بموافقتك ورضاك.
لوح السيد يده في نفاد صبر، وقال بلهجة لم تخل من حدة: تأبى أن تفتح عينيك على ما في رأيي من حكمة!
فقال ياسين برجاء حار: لا تغضب يا بابا، أستحلفك بالله ألا تغضب، إن رضاك بركة، ولا أطيق أن تضن علي بها، دعني أجرب حظي وادع لي بالتوفيق.
اقتنع أحمد عبد الجواد بأن عليه أن يسلم بالأمر الواقع، فسلم به في حزن ويأس ... أجل، ربما كانت مريم - رغم استهتار أمها - فتاة شريفة وزوجة صالحة، ولكن لا شك كذلك في أن ياسين لم يوفق إلى اختيار أصلح الزوجات ولا أفضل البيوت.
Página desconocida