قالت أمينة بامتنان، وكانت موردة الوجه من الحياء والسرور: ربنا يفرحك بعبد المنعم وأحمد، ويفرح سي خليل بنعيمة وعثمان ومحمد، (ثم ملتفتة إلى ياسين) ويفرح ياسين برضوان.
كان كمال يسترق النظر إلى إبراهيم حينا وإلى خليل آخر، وعلى شفتيه ابتسامة ثابتة يداري بها عادة ملله من الحديث، الذي تنعدم متعته وتقضي اللياقة بالاشتراك فيه ولو بحسن الإنصات. إن الرجل يحدث عن الطعام وكأنه لم يزل على المائدة سكران بشهوة الأكل، الطعام ... الطعام ... الطعام ... لم استحق هذا التقديس كله؟ هذان الرجلان العجيبان لا يبدو أنهما يتغيران مع الزمن، كأنهما بمنأى عن تياره. إبراهيم اليوم هو إبراهيم الأمس، لم يكد يطرأ عليه من إشرافه على الخمسين إلا أثر غير ملحوظ تحت العينين أو فيما حول طرفي الفم، ونظرة رزينة ثقيلة لم تكسبه وقارا بقدر ما أكسبته مزيدا من الخمول، ولكن شعرة واحدة - سواء في رأسه أم في شاربه المفتول - لم تشب، وبدانته لم تزل مدمجة قوية لم يعتورها ترهل، إلى أن التشابه الذي جمع بين الشقيقين إلا في أعراض لا يعتد بها كالاختلاف بين شعر خليل السبط المرسل وشعر إبراهيم القصير المحلوق، وتماثلها في الصحة والنظرة الخاملة كان مما يبعث على الضحك والازدراء حقا، وكانا يرتديان بذلتين من الحرير الأبيض وقد نزع كل منهما جاكتته، فلاح قميصه الحريري والأزرار الذهبية تلمع في عرا أكمامه، مظهر ينم على وجاهة هي كل ما هنالك. في بحر السنوات السبع التي وصلت بين الأسرتين، كان يخلو إلى هذا أو ذاك منهما كثيرا أو قليلا، ولكن حديثا واحدا ذا طعم لم يجر بينهم! ... فيم الانتقاد؟ ولولا ذاك ما كان هذا الانسجام الموفق بينهما وبين شقيقتيه؟ إن الازدراء - من حسن الحظ - لا يناقض العطف والإيثار بالخير والمودة. أوه ... يبدو أن حديث الطواجن لم ينته بعد، ها هو سي خليل شوكت يتهيأ ليلقي كلمته: لم يعد أخي إبراهيم الحق فيما قال، يد لا عدمناها، ومائدة جديرة بأن ينادي بها المنادون.
كانت أمينة في أعماقها تحب الثناء، وكثيرا ما تعاني مرارة الحرمان منه، لشعورها بالجهد الدائب الذي تبذله عن حب وطواعية في خدمة البيت وآله. وكثيرا ما نهمت إلى سماع كلمة طيبة من السيد، ولكن السيد لم يكن من عادته أن يجود بالثناء عليها وإذا جاد ففي اقتضاب، وفي أحوال نادرة لا تكاد تذكر، لذلك وجدت نفسها بين إبراهيم وخليل في موقف عجب غير مألوف ملأها سرورا حقا. ولكنه هيج لحد الارتباك حياءها، فقالت تداري مشاعرها: لا تبالغ يا سي خليل، أنت لك أم من يألف طعامها يزهد في أي طعام سواه!
وبينا عاد خليل إلى توكيد الثناء، اتجهت عينا إبراهيم بحركة عكسية إلى خديجة، فالتقى بعينيها وهما تحدجان إليه كأنما توقعت نظرته فاستعدت لها، فابتسم كالظافر، وقال يخاطب حماته: لا يقرك بعض الناس على هذا الرأي يا حماتي.
أدرك ياسين مرمى هذه الملاحظة، فضحك ضحكة عالية، وسرعان ما ضج المجلس بالضحك، حتى أمينة ابتسمت ابتسامة عريضة، واهتز نصفها الأعلى بضحكة مكتومة فدارت استسلامها بخفض رأسها كأنما تنظر في حجرها. بقيت خديجة وحدها جامدة الوجه، وانتظرت حتى هدأت العاصفة، ثم قالت بتحد: لم يكن خلافنا حول الطعام وطهيه، ولكن حول حقي في الاستقلال بشئون بيتي، ولا علي من هذا.
تجددت في النفوس ذكرى المعركة القديمة التي استعرت في العام الأول من زواج خديجة بينها وبين حماتها حول «المطبخ»، وهل يظل واحدا للبيت كله تحت إشراف الأم، أو تستقل خديجة بطبيخها كما أرادت. كان خلافا خطيرا هدد وحدة الأسرة الشوكتية، وترامت أنباؤه إلى بين القصرين، حتى علم به الجميع ما عدا السيد أحمد الذي لم يجرؤ أحد على إبلاغه إياه، لا هو ولا سائر الخلافات التي نشبت تباعا بعد ذلك بين الحماة وكنتها. وأدركت خديجة مذ فكرت في الكفاح أن عليها أن تعتمد على نفسها وحدها، فزوجها على حد تعبيرها «رجل نائم» لا هو لها ولا عليها، كلما حرضته على استخلاص حقها قال لها كالمداعب: «يا ست ... دعينا من وجع الدماغ!» ولكنه إذا كان لم يؤيدها فإنه كذلك لم يشكمها، فانبرت إلى الميدان وحيدة، ورفعت رأسها حيال العجوز المبجلة بجرأة لم تكن متوقعة وبعناد لم يخذلها حتى في ذلك الموقف الدقيق، عجبت العجوز لجرأة البنت التي تلقتها على يدها من عالم الغيب، وسرعان ما احتدم الخصام وجن الغضب، وراحت تذكرها بأنه لولا فضلها عليها ما صح ولو في الأحلام أن تظفر مثلها بزوج من آل شوكت، ولكن خديجة رغم ثورتها كظمت غيظها فوقفت عند التصميم على نيل ما تراه حقا لها دون اللجوء إلى حدة لسانها المأثورة، لسابق منزلة العجوز من ناحية، ولخوفها من أن تشكوها إلى أبيها من ناحية أخرى، ثم هداها مكرها إلى أن تحرض عائشة على العصيان، ولكنها وجدت من الفتاة الكسول إعراضا وجبنا، لا حبا في الحماة ولكن إيثارا للراحة والدعة اللتين تمتعت بهما - بغير حساب - في ظل الحضانة الإجبارية التي فرضتها حماتها على الجميع، فصبت غضبها عليها ورمتها بالضعف والتنبلة، ثم ركبها العناد فواصلت «الجهاد» بلا توان أو تردد حتى ضاق صدر العجوز فسلمت كارهة بحق كنتها «الغجرية» بالاستقلال بمطبخها، وهي تقول لابنها الأكبر: «أنت وشأنك، إنك رجل ضعيف لا قبل لك بتأديب زوجك، وجزاؤك الحق أن تحرم من طعامي إلى الأبد!» ظفرت خديجة ببغيتها فاستردت أدوات جهازها النحاسية. وهيأ لها إبراهيم المطبخ كما رسمت، ولكنها خسرت حماتها، وفتكت بأسباب المودة التي ربطت بينهما مذ درجت في المهد، ولم تحتمل أمينة فكرة الخصام فصبرت حتى هدأت النفوس، ثم سعت سعيها عند السيدة المبجلة مستعينة بإبراهيم وخليل حتى تم صلح، ولكن أي صلح كان؟ كان صلحا لا يكاد يستقر حتى يصطدم بنقار، ثم يعقبه صلح، فنقار من جديد، وهكذا ... وكل واحدة منهما تلقي التبعة على الأخرى، وأمينة بينهما حائرة، وإبراهيم واقف موقف المحايد أو المتفرج، كأن الأمر لا يعنيه، فإذا رأى أن يتدخل تدخل وانيا وقنع بترديد النصيحة في هدوء، بل برود غير مبال بتوبيخ أمه أو عتاب زوجه. ولولا إخلاص أمينة ودماثة خلقها لسارت العجوز بشكواها إلى السيد أحمد، ولكنها عدلت عن ذلك كارهة، ومضت تنفس عن صدرها في أحاديثها الطويلة مع كل من يلقاها من الأهل والجيران، معلنة على رءوس الأشهاد بأن اختيارها خديجة زوجة لابنها كان أكبر غلطة ارتكبتها في حياتها، وأن عليها أن تتحمل الجزاء.
قال إبراهيم معقبا على كلام خديجة، وهو يبتسم، كأنما ليخفف بابتسامته من وقع تعقيبه: ولكنك لم تكتفي بالمطالبة بحقك، بل طعنت بلسانك ما حلا لك الطعن، هذا إذا لم تكن خانتني الذاكرة!
ورفعت خديجة رأسها المعصوب بمنديل بني في تحد، وقالت وهي ترمق زوجها بنظرة تهكم وغيظ: ولم تخونك الذاكرة؟ هل من أفكار أو مشاغل ترهقها حتى تخونك؟ ليت للناس جميعا ذاكرة هادئة مطمئنة خالية البال كذاكرتك! لم تخنك ذاكرتك يا سي إبراهيم، ولكنها خانتني أنا، والحق أني لم أتعرض لمقدرة نينتك، ولم يكن لي بها شأن ولا حاجة إليها؛ فإني أعرف بحمد الله كافة واجباتي وأعرف كيف أؤديها على خير وجه، ولكني كرهت أن أقبع في بيتي وأن يجيئني الطعام من الخارج كنزلاء الفنادق. وفضلا عن هذا كله فإني لم أطق - كما يحلو ل «بعض الناس» - أن أمضي نهاري نائمة أو لاهية وغيري يقوم بمهام بيتي.
أدركت عائشة من توها المقصود من «بعض الناس»، فضحكت ولما تكمل خديجة كلامها، ثم قالت بلهجة لطيفة كأنما دافعها الإشفاق: افعلي ما يحلو لك ودعي الناس - أو بعض الناس - وشأنهم، لا شيء الآن يدعو إلى كدرك؛ فأنت سيدة مستقلة - عقبى لمصر - وتعملين من طلوع الفجر إلى نزول الليل: في المطبخ، والحمام، وفوق السطح، وتعنين في وقت واحد بالأثاث والدجاج والأولاد، والجارية سويدان لا تجرؤ على الاقتراب من شقتك أو حمل ابن من أبنائك، رباه ... لم هذا العناء كله وقليل منه يغني؟!
أجابت خديجة بحركة من ذقنها، وهي تغالب ابتسامة دلت على أنها وجدت في كلام عائشة ما استأنست إليه، وعند ذاك قال ياسين: بعض الناس يخلقون للسيادة، وبعضهم يخلقون للعبودية.
Página desconocida