ثم رفعت صوتها منادية إياه وهي تقول: «تفضل!» فقام كمال وغادر الحجرة دون تردد، فالتقى بالقادم في الدهليز، وجد نفسه وجها لوجه مع ياسين! التقت عيناهما في نظرة ذاهلة، وسرعان ما غض كمال جفنيه وهو يذوب خجلا وارتباكا واضطرابا. وأوشك أن يندفع هاربا لولا أن عاجله ياسين بضحكة عالية رنت في سقف الدهليز رنينا عجيبا، فرفع الشاب إليه عينيه فرآه فاتحا ذراعيه وهو يهتف في سرور: يا ألف ليلة بيضا! ... يا ألف نهار سلطاني!
وقهقه عاليا فتعلق به نظر كمال في ذهول، ولما طالع فيه المرح الصافي جعل يفيق إلى نفسه حتى ارتسمت على شفتيه شبه ابتسامة متسائلة. ثم رجعت إليه الطمأنينة وإن لم يفارقه الحياء. وراح ياسين يقول بصوت خطابي: هذه ليلة سعيدة، الخميس 30 أكتوبر سنة 1926، ليلة سعيدة حقا ، ويجب أن نحتفل بها كل عام، ففيها تكاشف أخوان، وفيها ثبت أن صغير الأسرة يتقدم حاملا لواء تقاليدها المجيدة في عالم اللذات!
وعند ذاك جاءت وردة وهي تسأل ياسين: صديقك؟
فقال ياسين ضاحكا: بل أخي ابن أبي وأ ... كلا ابن أبي فقط، أرأيت أنك معشوقة الأسرة يا بنت الذين؟
فتمتمت قائلة: «عفارم!» ثم خاطبت كمال قائلة: واجب الأدب يقضي بأن تنزل لأخيك الأكبر عن دورك يا نونو.
فضحك ياسين ضحكته الكبيرة، وقال: واجب الأدب! من ذا الذي علمك آداب الوصل؟ تصوري أخا ينتظر أخاه على الباب! ... ها ... ها ...
فرمقته بنظرة تحذير وهي تقول: اضحك بصوتك المخيف حتى تسمع البوليس يا سكير، ولكنك تعذر ما دام أخوك النونو لا يجيئني إلا مترنحا.
حدج ياسين كمال بنظرة دهش وإكبار، ثم قال: أعرفت هذا أيضا؟! رباه حقا إننا أولاد حلال، أولاد حلال بالمعنى، قرب فاك لأشمه! ولكن لا فائدة من ذلك؛ فالسكران لا يشم رائحة السكران، خبرني الآن: ما رأيك في هذه الحكمة التي تعلمتها من الحياة لا من الكتب؟ ... (ثم وهو يشير إلى وردة) ... إن زيارة واحدة لبنت الملسوعة هذه تعادل مطالعة عشرة كتب محرمة، إذن فأنت تسكر يا كمال؟! يا ألف نهار أبيض! نحن أصدقاء من قديم الزمان، أنا أول من عد ... - الله، الله! ... هل أنتظر حتى مطلع الفجر!
دفع ياسين كمال وهو يقول: ادخل معها وسوف أنتظر أنا.
ولكن كمال تقهقر وهو يهز رأسه بالرفض القاطع. ثم تكلم لأول مرة قائلا: كلا، ليس ... ليس الليلة.
Página desconocida