تقلص قلب كمال لوقع هذا الكلام، بيد أنه لم يخرج عن رقته وهو يقول معاتبا: حسين، لا تجدف.
ولأول مرة مذ افتتحت المأدبة تكلمت عايدة، فقالت: لا تسئ بنا الظن، نحن نشرب البيرة لفتح النفس ليس إلا، ولعل مشاركة بدور لنا تقنعك بحسن نيتنا، أما لحم الخنزير فلذيذ جدا، جربه ولا تكن حنبليا، لا تزال أمامك فرصة كبيرة كي تطيع الدين فيما هو أهم من هذا كله.
ومع أن كلامها لم يختلف في جوهره عن كلام حسين، فإنه نزل على قلبه المتألم بردا وسلاما، وإلى هذا فقد صادف منه نفسا حريصة كل الحرص على ألا تكدر لهم صفوا أو تخدش لهم شعورا، فابتسم في تسامح رقيق، ومضى يتناول طعامه وهو يقول: دعوني آكل الطعام الذي آلفه، وأكرموني بالمشاركة فيه .
ضحك حسين، ثم قال مخاطبا كمال وهو يشير إلى أخته: اتفقنا في البيت على أن نقاطع طعامك إذا قاطعت طعامنا، ولكن يخيل إلي أننا لم نحسن تقدير ظروفك، على هذا فإنني سأتحلل من ذلك الاتفاق إكراما لك، ولعل عايدة أن تقتدي بي.
فنظر كمال نحوها برجاء، فقالت باسمة: إذا وعدتني بألا تسيء الظن بنا.
فقال كمال بابتهاج: لا عاش من أساء بكم الظن.
أكلوا بشهوة عظيمة، حسين وعايدة أولا، ثم تشجع كمال بهما فتابعهما، وكان يقدم الطعام بنفسه إلى بدور التي اكتفت بسندوتش وقطعة من صدر الدجاجة، ثم أقبلت على الفاكهة. ولم يستطع كمال أن يقاوم الرغبة في استراق النظر إلى حسين وعايدة وهما يأكلان؛ ليرى كيف يتناولان طعامهما، أما حسين فكان يلتهم الطعام دون مبالاة كأنه منفرد، غير أنه لم يفقد طابعه الممتاز الذي يمثل في عيني كمال الأرستقراطية المحبوبة المنطلقة على سجيتها، وأما عايدة فقد كشفت عن أسلوب جديد من الرشاقة، والأناقة، والتهذيب في طبيعتها الملائكية سواء في قطع اللحم، أو القبض بأطراف الأنامل على السندوتش، أو حركات الثغر عند المضغ، ومضى هذا كله يسيرا هينا لا أثر للتكلف أو القلق فيه. الحق أنه انتظر هذه الساعة بتشوف وإنكار كأنما كان في شك من أنها تأكل الطعام كسائر البشر. ومع أن معرفته لنوع الطعام أزعجت ضميره الديني أيما إزعاج، فإنه وجد في «غرابته» وخروجه عن مألوف ما يتناوله الناس الذين عهدهم مشابهة تربطه بآكله، فارتاح لها خياله الحائر المتسائل. وتناوبه شعوران متناقضان، قلق بادئ الأمر وهو يراها تقوم بهذه الوظيفة التي يشترك فيها الإنسان والحيوان. ثم داخله شيء من الارتياح لما قربت هذه الوظيفة بينه وبينها ولو درجة واحدة، على أن نفسه لم تعفه من علامات الاستفهام عند هذا الحد، فوجدها تدفعه إلى التساؤل عما إذا كانت تؤدي سائر الوظائف الطبيعية الأخرى؟ لم يسعه أن يقول لا، ولم يهن عليه أن يقول نعم، فأضرب عن الإجابة وهو يعاني إحساسا لم يعرفه من قبل تضمن - فيما تضمن - احتجاجا صامتا على نواميس الطبيعة. - إني معجب بشعورك الديني، ومثاليتك الأخلاقية.
نظر كمال إليه في حذر المرتاب، فقال حسين بتوكيد: عن صدق تكلمت لا عن دعابة.
ابتسم كمال في حياء، ثم أشار إلى ما تبقى من السندوتشات والبيرة قائلا: بالرغم من هذا فإن احتفالكم بشهر رمضان يفوق كل وصف، أنوار تضاء، قرآن يتلى في بهو الاستقبال، المؤذنون يؤذنون في السلاملك، هه؟ - إن أبي يحيي ليالي رمضان حبا وكرامة، واستمساكا بالتقاليد التي اتبعها جدي، وإلى هذا فهو وماما يواظبان على الصوم.
قالت عايدة باسمة: وأنا.
Página desconocida