Qasida y Sura
قصيدة وصورة: الشعر والتصوير عبر العصور
Géneros
11
وأخيرا فقد كشف هذا الناقد نفسه (وهو ماريو براز) عن العلاقة الوثيقة بين الفن التجريدي وقصائد الشاعر جيوم آبوللينير «كاليجرام»، كما ذكرته قصائد الشاعر كمنجز (1894-1962م) برسوم وصور موندريان وكاندنسكي وباول كليه، بل لقد وصف بعض قصائد هذا الشاعر بأنها شعر ورسم في آن واحد، وأنها تطبيق جديد للمبدأ القديم الذي عبر عنه هوراس عندما قال «كما يكون الرسم يكون الشعر» ...
ومهما يكن من تحذير بعض نقاد وفلاسفة الفن من الغلو في هذه المقارنات بين الفنون إلى درجة الاضطراب والغموض وتذويب الحدود بينها (مثل رينيه ويليك، وإتيين سوريو وجيمز مربمان)، فلا يمكن أن نتجاهل التأثيرات المتبادلة بينها، ولا أن نجرد رؤية الفنان للقصيدة من كل قيمة، ولا أن نغفل الثمار التي جناها الأدب والفن التشكيلي من التجاوب الروحي والعملي بينهما. ولا شك في أننا مهما ميزنا الفنون بعضها عن بعض وأبرزنا الفروق البنيوية التي تجعلها تعبر عن عوالم مختلفة بوسائل مختلفة، فإن الوظيفة الرمزية واحدة في كل أنواع التعبير الفني (كما تقول الفيلسوفة سوزان لانجر)، كما أن كل التقسيمات والتصنيفات والتصورات الجمالية المختلفة تنتهي في أعماقها العميقة إلى وحدة واحدة (كما يقول كروتشه في كتابه عن الشعر). وسواء فهمنا من هذه الوحدة الأخيرة أن جميع الفنون تطمح إلى أن تصبح انسجاما وموسيقى، أو أن تتحول في النهاية إلى عبادة وصلاة، فإن هذه الوحدة المأمولة تدل في كل الأحوال على الصلة الحميمة بين جميع الفنون ...
ولا بد من القول بأن تأكيد هذه الصلة الحميمة لا يعني ببساطة أن القصيدة الشعرية يمكن أن «تمثل» الصورة أو العمل التشكيلي بحيث تكون مطابقة لها، أو أن هذين الأخيرين يمكنهما أن يترجما المشاعر والأخيلة، والمواقف النفسية والعقلية التي تنطوي عليها القصيدة؛ فمن الفنانين أنفسهم من يحدثنا عن صعوبة استيحاء المضمون الشعري وتحويله إلى صورة. وقد اعترف الفنان الألماني «باول كليه» بأن من العسير إيجاد تشكيل فني يطابق الموضوع (أو الموتيف) الشعري مطابقة تامة. والعكس كذلك صحيح؛ فمن الصعب أن نعثر على الأعمال الفنية اللغوية (أي القصائد) التي تناظر الصور والتماثيل، أو تعكس على الكلمة ما أظهره الفنان في اللون والظل والخط والتشكيل. وسوف يتبين لنا بعد قراءة عدد من «قصائد الصور» أن من الشعراء من اكتفى بوصف الصورة، ومنهم من راح يمجدها ويمجد صاحبها، أو ينقدها ويتهكم عليها ، ومنهم كذلك من أخذ يخاطبها ويناجيها أو تركها تخاطبه وتناجيه، ومن ذكر مضمونها وروى قصة نشأتها وحياتها، ومن استخدمها مناسبة للاسترسال في تأملاته وتجاربه الشخصية. وربما فوجئنا بالشاعر الذي يكتب عن صورة فيخيل إلينا أنه هبط إلى ذلك الأساس أو الأصل الخفي الذي تكمن فيه قوانين الوجود، وتتلاقى الرياضيات والأحلام، وتنبثق كل الصور والكلمات كأنها تتدفق من نبع جياش. ولا بد أن نحس عندئذ كأن الشاعر الفريد قد جرب ذلك الانسجام الأصلي ومعه ذلك الانشقاق الأصيل اللذين تصدر عنهما الحياة الواعية واللاواعية التي تعمل عملها في كل الفنون ...
إن تجميع الصور والقصائد على النحو الذي تراه في هذا الكتاب سيتيح لك المقارنة بين الصورة والنص الذي كتب عنها، كما سيتيح لكل من الشعر والرسم أن يلقي أحدهما الضوء على الآخر ويتواصل معه؛ فالنص الشعري لا يفسر بنص نثري، وإنما يفسر بشيء مستقل عنه ينتمي لميدان فني آخر، شيء يمكن أن يرى وأن يقارن بالنص. ولما كانت قصيدة الصورة تقوم على أساس الاختلاف القائم بين الفن اللغوي وفن التصوير، ولا تمس الحواجز الفاصلة بينهما، فإنها تستطيع بوسائلها اللغوية والإيقاعية أن تفسر ما تمثله الصورة بوسائلها العيانية في وسط آخر. ولا تخفى الفائدة التي يمكن أن يجنيها الفن والأدب من أمثال هذه المقارنات، بل إن الأمر ليتخطى حدود الفن والأدب لينعكس على علوم الاجتماع والنفس واللغة والأدب المقارن والجمال؛ ففي إمكان المهتم بأحد هذه العلوم أن يقوم بهذا اللون الفريد من البحث المقارن ليلتمس فيه الإجابة على مشكلة تشغله. في إمكان عالم الاجتماع - على سبيل المثال - أن يعرف كيف تلقى الناس عملا من الأعمال الفنية في عصر معين بكل ما ينطوي عليه تلقي الفن من مضامين اجتماعية ودلالات على روح العصر وثقافة المجتمع وميول الطبقات المختلفة. وفي استطاعة عالم النفس أن يتوسل بالنص الشعري للتغلغل في نفسية الفنان والاطلاع على أسرار صنعته وإبداعه. ولن يتردد عالم اللغة عن دراسة القصيدة ليكشف عن دلالة الكلمات والصور والتكوينات اللغوية والإيقاعية، وهل اقتصرت كلمة الشاعر على الإشارة والوصف، أم حملت قوة الرمز وقدرته على الإشعاع والإيحاء والتلوين. أما مؤرخ الفن وناقد الأدب وفيلسوف الجمال فسيجدون في هذه المقارنات موضوعات للبحث لا تنفد، وربما وجدوا فيها حلولا لمشكلات لم يكن من السهل الإجابة عليها قبل ولوج هذه الأرض الحرام التي كانت تفصل بين الفن التشكيلي والأدب، فإذا بها تزدحم أمامه بعشرات من الفنانين والشعراء الذين تجمعوا من بلاد وعصور مختلفة، واخترقوا حدود الجنسيات واللغات لكي يلتقوا على هدف إبداعي وإنساني واحد ...
غير أن القارئ الذي أدعوه للاستمتاع بقراءة هذه القصائد واللوحات ستواجهه مشكلة عويصة أو بالأحرى مشكلتان؛ كيف يقرأ القصيدة، وكيف يقرأ الصورة؟! لا شك في أن القراءات تتعدد بتعدد القراء، وربما اختلفت عند القارئ الواحد من لحظة إلى أخرى، ومن مرحلة من العمر إلى مرحلة، وفي كل مرة يكتشف طبقة من طبقات النص كانت خافية عليه ... ستسعفه قراءاته السابقة بطبيعة الحال، وربما أعانته تجاربه الأدبية والفنية التي اكتسبها من خبرته بالتراثين الأدبي والفني على الغوص في تلك الأعماق. وعلى قدر العمق الذي بلغته هذه الخبرة الحية يكون عمق القراءة. ومن الأمور المتفق عليها اليوم أن قراءة الشعر نوع من الخلق والإبداع؛ فنحن عندما نقرأ شعرا نتمثل ما فيه من مشاعر وتجارب وأخيلة، وتنفتح لعيون بصيرتنا مجموعة من الصور والمناظر والمواقف التي «رسمها» الشاعر ودفعنا على رسمها من جديد لنعايشها بحالة شاعرية وشعورية تكاد تكون قريبة من ذات الحالة التي صادفته عندما كتب قصيدته. وربما يكون الحال كذلك مع الصور واللوحات وأعمال النحت التي نتأملها ونحاول أن ندخل إلى عالمها؛ فهي تجسم أو تظهر - بالخط واللون والضوء والظل، أو بالحجر والخشب والنحاس ... إلخ - مجموعة من المشاعر والأفكار والتجارب التي اختلجت في عقل الفنان ووجدانه، وفي الحالين نجد أنفسنا مدعوين للمشاركة في تكوين أو تشكيل أو بناء خاص انصهرت فيه الألفاظ والصور والأوزان والإيقاعات من ناحية، والخطوط والألوان والمساحات والظلال من ناحية أخرى. وتزداد صعوبة المشكلة مع قصائد نقلت - على جسر الترجمة الواهن! - من لغة إلى لغة أخرى مختلفة عنها في نظامها الصوتي والنحوي والتركيبي والدلالي. والواقع أن كلمات الشعر - بل أحرف هذه الكلمات! - بترتيب سياقها في القصيدة، وبجرسها ورنينها الخاص، هي مفتاح الباب الضيق - أو الباب المغلق! - الذي ننفذ منه إلى عالم الشعر السحري، أصل النشوة والعجب و«التعجيب» الذي يأخذ بألبابنا عند قراءته. ولم يبالغ القاضي الجرجاني عندما وصف كلام الشاعر بأنه «أصوات محلها من الأسماع محل النواظر من الأبصار ...»
12
ولكن ما العمل إذا كانت القصائد لا تقدم في لغاتها الأصلية؟ وإذا كانت الترجمة تضحى مضطرة بصوت اللفظ الذي هو جزء لا يتجزأ من معناه، بل تنقل اللفظ الأصلي بجرسه الخاص إلى نظام لغوي آخر ينقله إلى لفظ آخر إلى صوت وجرس مختلفين؟ أليس معنى هذا أن تصبح قراءة النص الشعري أمرا مستحيلا لمجرد أنه نص مترجم؟
كل هذه مشكلات وأسئلة تطرح نفسها على الترجمة الأدبية بوجه عام وترجمة الشعر بوجه خاص. وليس هذا هو مجال مناقشة هذه المعضلة التي تتفرق حولها الآراء من قائل إن الشعر لا يترجم - كالجاحظ في عبارته المشهرة - أو إن جوهر الشعر نفسه هو الذي يذهب مع الترجمة، أو إن ما يبقى منه بعدها أكثر مما يضيع منه ... إلخ. ولا خلاف على أن ترجمة الشعر - حتى لو قيض لها أشعر الشعراء في لغاتهم الأصلية! - تمثل العقبة الكبرى أمام قراءته قراءة حقيقية يصحبها الفهم العميق والذوق الدقيق لدلالات الألفاظ وإيحاءاتها الصوتية والصورية والرمزية. ولقد تمنيت لو جاءت الترجمة العربية في مواجهة النص الأصلي في لغته التي قرأته بها، لكن ظروف النشر في عالمنا العربي لا تسمح بهذا العمل الواجب، وربما يزيد من أعباء النشر والطبع التي لا ضرورة لزيادة ثقلها. أضف إلى هذا أن القراءة المثالية إذا كانت قد أصبحت مستحيلة أو بعيدة المنال، فإن فرصة القراءة الممتعة التي تتيحها المقارنة بين النص والرسم بجانب مقارنة النصوص الشعرية بعضها ببعض لم تنعدم ولا يمكن أن تنعدم.
ولنجرب الآن - بوسائلنا النثرية الفقيرة - أن نقرأ بعض الصور التي ستجدها في هذه المجموعة المختارة ، ولنحاول أن ننظر إليها بعيون الشعراء الذين عرفوا كيف ينظرون، فربما نتعلم منهم شيئا من فن الرؤية الذي برعوا فيه، بينما نسير نحن في دروب هذا العالم كالذين يفتحون أعينهم ولا يرون ...
Página desconocida