والأمل الغالب في هذه المرحلة من مراحل فن الطيران أن الصعود إلى الكواكب ممكن ولكنه لا يزال محفوفا بكثير من الصعوبات، وأن الصعوبات في هذه المرة من جانب الطائرين لا من جانب الآلات الطائرة، فليس من العسير إتقان الآلة التي تصعد إلى الأجواء العلوية بين كواكب السماء، ولكن العسير أن نضمن حياة الإنسان في جو غير جو الأرض وعلى جرم غير جرمها وبيئة من الأحوال الطبيعية غير بيئتها، وأن نزود البنية الإنسانية بالقوة التي تحتمل أعراض التغير الطارئ عليها، إذا تيسر للمخترعين أن يجهزوا الطائرة بما يعوضها عن ضرورات الحياة في الأرض إلى حين.
والمشكلة الحاضرة في أمر الطيران هي مشكلة طب الفضاء أو مشكلة «الطاقة الإنسانية» في البيئات المجهولة من الآفاق العلوية، ومنها ما يتعذر الاحتياط له ويدري أحد كيف يكون الاحتياط له، وهو مجهول.
فمشكلة الطائرة التي تحمل ركابها إلى الآفاق العليا لا تعد الآن من الصعوبات الأساسية أمام المخترعين، سواء سارت بالدفعات المتعددة كما تسير الصواريخ، أو سارت بالمحركات المستمرة كما تسير الطيارات المعهودة، أو سارت بالقوتين مجتمعتين واستخدمت في جميع الحالات أنواع الوقود ومنه الوقود المستمد من الطاقة الذرية، لأن النظريات العلمية التي تطبق في هذه الحالات جميعا معروفة مقررة، ووسائل تنفيذها قابلة للتحسين مع استمرار التجربة والمراجعة العلمية ، أما الصعوبات الصحية فليست بالهينة ولا بالمفهومة على جلائها، ومما يحصونه منها في الوقت الحاضر صعوبة الجو والجاذبية والأشعة الكونية، وأنواع الأشعة المختلفة، وقذائف الفضاء من الشهب، والنيازك، والمذنبات.
فالجو الأرضي ينتهي بعد مئات من الأميال فوق سطح الكرة الأرضية، فإذا خف هذا الضغط فمن الواجب أن يحتاط راكب الطيارة لتغيير الحالة إذا استطاع، وإلا تسربت السوائل التي في جسمه وتمددت الغازات التي في جسمه وانفجرت الأوعية والشرايين، وليس في السيارات الشمسية سيارة واحدة تشبه الأرض في أحوالها الجوية، فمنها ما ليس له جو على الإطلاق، ومنها ما له جو كثيف خانق لا يسهل التنفس فيه، ومنها ما يتجه إلى الشمس على الدوام بصفحة واحدة، مع اختلاف كبير في درجات الحرارة واختلاف أكبر منه في درجات الرطوبة حيث يوجد الماء، وهو معدوم في أكثر السيارات، ولا يسمع الكلام - بالبداهة - حيث ينقطع جو الهواء.
وصعوبة الجاذبية مرتبطة بحجم الكوكب الذي يهبط عليه الإنسان، فإذا كان حجم الكوكب كبيرا اشتدت الجاذبية، وازداد ثقل الجسم، وتعذر تحريك الأعضاء، وامتنعت كل حركة سهلة على الكرة الأرضية، وإذا صغر حجم الكوكب اختل التوازن في جسم المركب على حسب الجاذبية الأرضية ويزداد الاختلال عنفا حيث ينقطع جو الهواء.
وقد يبدو أن صعوبة الأشعة الكونية وأنواع الأشعة المختلفة أهون من صعوبة الجو والجاذبية، ولكن بعض العلماء يخشى أن تكون هذه أصعب الصعوبات في رحلة الفضاء وراء الغلاف الجوي المحيط بالكرة الأرضية؛ لأن هذا الغلاف عازل منيع يحمي الأحياء من تأثيرات تلك الأشعة وتأثيرات الشحنة الكهربائية أو المغناطيسية التي تكمن في بعضها. فإذا جاوزت الطائرة غلاف الأرض فإن جدرانها المعدنية لا تمنع ركابها أن يصابوا بأضرارها؛ لأنها تنفذ في الرصاص طبقة بعض طبقة، فلا يؤمن أثرها في الأنسجة الحية إذا نفذت إليها، مع كثرتها وتتابع أمواجها أو ذراتها في كل خطوة.
وربما احتيل على الأشعة بحيلة من حيل الوقاية المانعة إذا نجح العلماء في تحديد خصائصها واهتدوا إلى سبل الوقاية الصحية منها ، ولكن الخطر الذي لا يسهل اتقاؤه هو الخطر الذي لا يعرف موضعه ولا تعرف قوته ولا تعرف الساعة التي يطرأ فيها، ونعني به خطر الشهب والنيازك والمذنبات، فإنها تتفرق في أنحاء الفضاء وتندفع على غير انتظار وتصدم الطائرة تارة بجسم صغير، وتارة بجسم كبير، وقوتها تختلف على حسب الحالتين وعلى حسب المادة التي تتكون منها، وقد تكون أصلب من جدار الطائرة وأسرع من الطائرة وأشد اندفاعا وخطرا في حالة الاصطدام.
تلك بعض المصاعب التي يواجهها الباحثون في طب الفضاء، ولا يقال الآن: إنه أفلح في تحقيقها وحصر أضرارها، فأما التغلب عليها وتدبير علاجها فلا يدعيه أحد من ثقات هذا العلم، وهم في الوقت الحاضر جد قليلين.
نعم إن طب الفضاء قد استفاد معلومات كثيرة من تجارب الصواريخ التي تحمل الحيوانات إلى مسافة بعيدة من الجو، إلا أننا نذكر «أولا» أن الصواريخ لا تتجاوز نطاق الجاذبية الأرضية، ونذكر «ثانيا» أن جو الصاروخ شبيه من جميع الوجوه بالجو الذي نعيش فيه على سطح الأرض، ونذكر «ثالثا» أن الصاروخ يصعد ويهبط في وقت قصير جدا بالقياس إلى الرحلة بين الكواكب، ونذكر أخيرا أن الحيوانات لا تتأثر بالعوامل النفسية والفكرية كما يتأثر بها الإنسان.
ومما يبحث عنه علماء طب الفضاء حالة الجراثيم أو المكروبات في الآفاق العليا من جو الكرة الأرضية، فهل تعيش الجراثيم إذا وصلت إلى تلك الآفاق؟ وهل تفعل فعلها المعهود في الأجسام الحية والأجسام الميتة؟ لهذا قيل: إن علماء طب الفراغ كانوا يترقبون فرصة نادرة بالكشف على جثة الكلبة التي قيل: إنها صعدت إلى الجو على بعض الأقمار الصناعية؛ لأنهم ترقبوا أن يعرفوا منها كيف يكون سريان الفساد في جسم الحيوان بعد مفارقة الحياة على مسافة من سطح الكرة الأرضية، وأن يعرفوا كيف يدب الفساد من داخل الجسم ومن خارجه بعد توقف عمل الحياة فيه، وربما ظهر لهم أن وجود الإنسان فترة من الوقت في الآفاق العليا كاف للشفاء من بعض الأمراض، وأن هناك مناعة من المكروبات أو عاملا من عوامل المقاومة لها في طبقة من طبقات الجو الأرضي يصل إليها الإنسان أو يستطيع أن يصنع حوله جوا يحاكيها وهو مقيم في داره أو مستشفاه.
Página desconocida