في كتاب صورة الغد لمؤلفه «جورج صول» أمل يرجى «للإنسان» من طريق التقدم في مجمل أحواله وأعماله ومعاملاته، يناط كله بالتعليم الذي لا بد منه لترقية الصناعة، وتدبير مطالب المعيشة.
ليس للإنسان أمل في عالم يحكمه القلة من الأذكياء والخبراء، وينقاد فيه للحكم المطلق جماهير الرعايا المسخرون على كره أو على طواعية، فقد أفلس حكم كهذا الحكم منذ القدم في دولة الرومان.
وليس للإنسان أمل في عالم تستغرق أوقاته في الكد والهم، ولا يتسع فيه بعض الزمن لعمل من أعمال الفراغ يقضي على اختيار وشوق بعد قضاء مطالب المعدات والجلود: مطالب الحيوان.
إنما الأمل للإنسان - لروح الإنسان - في عالم تتكفل فيه الصناعة بأكثر المطالب في أقل الأوقات، ويبقى فيه شطر من اليوم يقضيه الإنسان فيما يختاره، ويختار فيه ما يرتضيه العارف المدرك الآمن على الكفاية فوق الكفاف.
يقول المؤلف في ختام فصوله: إن علوم التصنيع تبدل من حالة العالم الذي نعيش فيه تبديلا قويا خليقا أن يبدل من وجهات العقول، فليست الآمال ولا الأحكام التي كانت ملائمة للمجتمع قبل بضعة أجيال بالتي تصلح لهذه العقول، ولنجمع هنا طائفة من وجهات التغيير التي تجري الآن والتي يرى أنها وشيكة أن تجري في الزمن القريب، كي نبني عليها «تخمين» وجهات الفكر بعد التبديل المنظور.
إن بعض أبناء هذه البلاد لا يقدرون على الكفاية من القوت والكساء والمسكن الصالح، ولكن الظاهر من نمو الدخل الفردي أن هذه الحالة قريبة إلى النهاية في الولايات المتحدة، وينتهي بانتهائها أقدم خوف للإنسان وهو الخوف من الفاقة، وكلما اقتربت الحالة من إشباع مطالب الكفاية تحولت هذه المطالب إلى غير الماديات، وإنها لمطالب حاضرة نحسها جميعا، وإنما يتناول التغيير المنظور أن نتمكن من تخصيص مزيد من الوقت والسعي للحصول عليها.
وقد أدى ارتفاع مستويات المعيشة المادية في الولايات المتحدة إلى التقدم السريع نحو المساواة في الدخل والمورد، ويؤخذ من الإحصاءات منذ سنة 1930 أن فئات المشتركين في الدخل الواحد والمعيشة الواحدة تنقص على عجل، ويصح هذا حتى بعد تعديل الإحصاءات من جراء ارتفاع الأسعار، وعلى حسب قيمة الدولار سنة 1950 يحصل نحو الخمس من تلك الفئات على دخل يقل مقداره عن ألف دولار ما بين سنتي 1935 و1936، فهبط هذا العدد إلى أقل من العشر سنة 1950، ومعظمنا على تفاوت مواردنا نلبس من أصناف متشابهة من الكساء، كما نأكل أصنافا متشابهة من الطعام، ونسكن في حجرات تتقارب عند المقارنة بينها، ولا تزال السيارات الرخيصة تدنو في مظهرها وسرعتها من ذوات الأثمان الغالية عاما بعد عام، ويرتفع عدد العائلات التي تملك سيارة واحدة على الأقل إلى نسبة تضارع ثلاثة أرباع عدد العائلات في البلاد، وهذه حالة تختلف كثيرا عما كان مشهودا قبل فترة من الوقت، ولا يزال مشهودا في كثير من البلاد حيث يعتبر اقتناء السيارة والتفرغ للرياضة والاستمتاع بالأطعمة الحسنة مزية من المزايا الاجتماعية النادرة.
ويشكو بعض النقاد من أن هذه التسوية مفضية إلى صورة من المشابهة على نمط واحد لا تنوع فيه، إن لم تفض إلى نمط من المماثلة الجامدة، وهذا خطر ولا ريب، إلا أن النتيجة أشبه أن تكون انتقالا إلى التمييز بين الأفراد بغير المزايا المادية، من أن تنتقل بنا إلى فقدان الشخصية، واختفاء التنوع في الأذواق، فيكثر عدد الأفراد الذين ينفقون أوقاتهم في مرضاة أذواقهم وتعبيرا عن ذواتهم، ولا يفرغون للمنافسة على مظاهر الثروة المادية، ومن كانت الوجاهة لديه بغية غالية كان أحرى أن يلتمسها بإنماء ما عنده من ملكات المهارة والذوق والمزايا الأدبية، ولم يلتمسها في المظاهر والأعراض، ولا ينتظر أن تزول المنافسة بين الناس، ولكنها تتحول على نحو أوسع وأشمل من الماضي إلى منافسة على السبق في خصلة من الخصال غير النجاح في كسب المال والمغانم الاقتصادية.
وتدل اتجاهات العمل على أن عدد العمال المشتغلين بإنتاج السلع المادية في التعدين والزراعة والمصنوعات آخذ في النقصان، وأن الزيادة تطرد في عدد العمال المشتغلين بتوزيع تلك السلع وإدارة المواصلات وسائر الخدمات ما عدا الخدمة المنزلية التي تميل كذلك إلى النقصان، وبعض هذه الخدمات قد دعت إليه الحاجة من ترقي العناية بالصحة، وكثرة الطلب لمن يطببون المرضى، ويشرفون على أسباب الوقاية، وبعضها قد دعت إليه الحاجة من كثرة طلب المتعلمين للإقبال على المدارس الثانوية والكليات، وينجلي الواقع في كثرة الطلب على المعلمين والمدرسين من أن عدد الموظفين الحكوميين يربى على عدد المستخدمين في المرافق الخصوصية، وأن وظائف الحكومة إنما تخصص لتوفير أنواع من الخدمات التي تقتضيها حياة الحضارة الصناعية، ومعنى التحول من إنتاج السلع إلى أداء الخدمات أن هناك تحولا من مزاولة الأشياء الجامدة إلى مزاولة المعاملات مع الناس، وتوكيد العلاقة المشتركة بينهم والبواعث العاطفية التي تتولد منها، ومنها بواعث الشعور بقضايا الاجتماع التي تتميز بها حضارتنا، وأبرز التغييرات وأحراها بالالتفات إليه أن عدد العاملين غير الفنيين ينقص على العموم، ولا يقف النقص فيه عند قلة النسبة إلى مجموعة السكان، ومغزى ذلك استئصال المشاق التي تضعف القدرة عليها بعد تجاوز الأربعين، وتقل أجورها، ويكثر فيها التعرض للبطالة.
ولما كان الناس يعملون من عشر ساعات إلى اثنتي عشرة ساعة كل يوم، كان لا بد لهم من وقت للراحة وتجديد النشاط للعمل؛ كي لا تكون أعمارهم سلسلة متلاحقة من الكد والمشقة، أما وأسبوع العمل الذي يكتفي فيه بأربع وأربعين ساعة يوشك أن يعم وأن ينقص إلى أقل من ذلك قريبا، فالوقت متسع أمام كثير من الناس لقضاء الفراغ في الشواغل الجدية لا لمجرد الراحة والاستجمام، وكلما اقترب أسبوع الساعات الأربع والعشرين من التحقق فكر ذوو الفطنة في طريقة يشغلون بها ستة أسباع أوقاتهم، وليس الكسب الذي ينتظرونه من ذلك مالا يشترون به مزيدا من بضائع السوق، بل أحرى أن يكون وسيلة لإشباع ما يروقهم مما يفضلونه على المشتريات بعد استيفاء الضروريات، ومن ذلك الرياضة الصحية، واللهو السائغ، والمرح الجياش بالشعور، والمتعة بإتقان بعض الهوايات، وتذوق الفنون، ولذة المعرفة، والقيام بالخدمات النافعة في الحياة السياسية والاجتماعية، وإن المجتمع الذي يتاح لكل فرد فيه على وجه التقريب أن يختار ما يشاء أن يشغل به معظم أوقاته ولا يساق اضطرارا إلى العمل الذي يجده كائنا ما كان، لهو مجتمع خليق أن يوصف بالمجتمع الحر على مثال أفضل وأوفى من كل مجتمع عرفناه فيما سلف، وهذه حرية تقترن كسائر الحريات بتبعة الاختيار الحسن كما يجوز أن يساء استعمالها، ومتى شعر الناس بالحاجة إلى اجتناب هذا الاستعمال السيئ لنشدان السعادة، كان شعورهم هذا حافزا هاما لابتكار الجديد من النظم الاجتماعية وأساليب العرف والعادة.
Página desconocida