مثال الرقة والعذوبة كان. زميلي على قمطر واحد على مدى خمس سنوات هي مدة دراستنا الثانوية. أبوه مدرس اللغة العربية، شيخ مقتدر قوي الشخصية مهاب الجانب، يسود فصله النظام والقانون. أما ابنه فهو قدوة في الأدب، والحياء، والسلوك السوي. بعيد كل البعد عن شقاوة الأقران، مسالم، في حاله، لا يند عنه لفظ خشن أو يصدر عنه سلوك منحرف. ذكره دائما يفوح بأريج الطيبة والدماثة، ذلكم هو حلمي أبو هجار. •••
عند محط البكالوريا افترقنا. ولما لم يكن من حينا لم أعد أدري عن مصيره شيئا. واصلت دراستي الجامعية، وتوظفت فأنسيته تماما، وتمزقت علائق الزمالة القديمة ساحبة وراءها جميع متعلقاتها. •••
ذات صباح، في زمن لعله الأربعينيات، مررت أمام قسم الموسكي في طريقي إلى دار الكتب للقراءة أو الاستعارة، فرأيت الزميل القديم واقفا عند مدخل القسم، وسط منظر درامي مؤثر؛ ضابط شرطة برتبة لم أعد أذكرها، يمثل أمامه مخبر قابضا على رجل من أهل البلد من أعلى جلبابه، الزميل القديم يتفحص ابن البلد بحنق شديد، صارخا في وجهه: رجعت إلى عادتك القديمة يا ابن ...
وانطلقت من فيه مجموعة وافية من أقذع الشتائم، مخترقة حرمات الأم والأب والجدود، وهوى على وجهه بضربة هائلة، ثم أردفها بركلة نترته مترا، وصاح بالمخبر: ارمه في الحبس حتى أرجع.
ذهلت ذهولا لا مزيد عليه. استوت الصورة الغليظة الوحشية الماثلة أمامي إلى جانب الصورة الوردية الملفوفة في الحياء والعذوبة التي استدعاها الخيال من ظلمات الماضي؛ رددت بصري بين الاثنتين وأنا لا أصدق. ومنعا للإحراج أردت أن أزوغ قبل أن يراني، ولكنه لمحني وهو يهبط سلم القسم في خيلاء وثقة، ثبتت عيناه علي قليلا وسرعان ما هتف: أنت! .. والله زمان!
تصافحنا في حرارة، ولما عرف مقصدي قال: طريقنا واحد حتى دار الكتب.
سرنا جنبا إلى جنب كالزمان الأول، أخبرته بإيجاز عن دراستي ووظيفتي، وإذا به يقهقه فجأة قائلا: لا شك أنك عجبت لما رأيت مني وسمعت؟
فقلت مرتبكا بعض الشيء: الحق أني ...
فقاطعني قائلا: المهنة تخلق الإنسان خلقا جديدا.
فسألته: أليس في القانون ما يكفي؟ - القانون! لا تجرني إلى عالم النظريات، القانون مفسدة لهؤلاء، إني بحكم عملي لا أتعامل غالبا إلا مع الأوباش، فلا مفر من استعمال لغتهم وتبني سلوكهم القانون؟!
Página desconocida