وبعد، فهذه رواية غرامية القصص، أدبية المغزى، أنشأتها وقدمتها إلى جمعية السيدات المارونيات، التي أنا إحدى المنتظمات في عضويتها؛ بقصد ضم ما يتسير من ريعها إلى دخل الجمعية، التي أخذت على نفسها تعليم البنات البائسات اللواتي يعجز أهلهن عن الإنفاق عليهن في المدارس، وحسبي عوضا عما تكلفته من التعب، وما أنفقته من الزمن؛ إقبال ذوي الغيرة على مشترى هذه الرواية تعضيدا لجمعيتنا هذه التي تجاهد في سبيل خدمة الإنسانية، ورحمة بالفتيات أن يلبثن بين أيدي الجهالة والفاقة، فيكن عالة على الهيئة الاجتماعية، والله المسئول أن يكلل سعينا بالنجاح، ويمهد لنا سبيل المبرات، وأن يتقبل منا هذه الخدمة المخلصة، إنه تعالى ولي الخيرات بمنه وكرمه.
لبيبة هاشم
الفصل الأول
فاتنة لبنان
لا تزيد المطالع علما بما كان من حوادث الفتنة الأهلية، التي جرت في لبنان سنة 1860، وما وقع في أكثر القرى من المذابح الهائلة، وسفك الدماء الزكية، بحيث اضطر معظم المسيحيين إلى الفرار من السيف والتشتت في آفاق البلاد، وكان حينئذ لأحد أمراء الدروز فتاة بارعة الجمال تدعى فاتنة، فحدث أن خرجت يوما على صهوة جوادها تقصد النزهة مع بعض أترابها من بنات الأمراء، فجمح بها الجواد، وأخذ ينهب تلك الفلوات حتى انتهى بها إلى سفح أكمة، فظهر أمامها واد بعيد العمق، تكتنفه الجبال الشاهقة والصخور والآجام، فهالها هذا المنظر وذهب برشدها، فأفلتت العنان من يدها وأطبقت أجفانها مستسلمة لرحمة القضاء، وإنها لكذلك، إذا بطلق ناري قد دوى بالقرب منها، فانتشر عنه دخان كثيف حجبها حينا عن العيان، ثم انكشف فظهر الجواد يخبط على الأرض بدمائه لرصاصة مزقت أحشاءه، والفتاة ملقاة إلى جانبه مغمى عليها.
وكان السبب في ذلك أن شابا مسيحيا يدعى حبيب، كان أهله في إحدى قرى الجبل، وكان مستخدما عند بعض التجار في بيروت، فلما انتشر خبر الفتنة خاف على أهله فأسرع إلى جواده، وتقلد سلاحه وسار إليهم، وهو يقصد الدفاع عنهم والخروج بهم من دائرة الخطر، وبينما هو سائر بصر بالفتاة على شفير الهاوية، فدعته المروءة إلى إنقاذها، ولما رأى الجواد صريعا أسرع ليرى ما حل براكبته، ولكنه لم يقترب منها حتى وقف حائرا مبهوتا لدى جمالها الباهر، وكاد يلهيه التأمل بحسنها عن الاعتناء بها وإفاقتها من إغمائها.
ولما تمالك روعه جثا أمامها، وأخذ يديها بكلتا يديه فوجدهما مثلجتين، فخفق فؤاده وزاد اضطرابه، وطفق يدلك كفيها الناعمتين، وعيناه تنظران حوله لعله يلقى معينا، فلم يجد إلا قفرا وسكوتا مخيفا، ولكن لم يلبث إلا أن شعر منها بحركة خفيفة، وبأنفاس متقطعة تخرج من فيها، فاطمأن باله على حياتها، إلا أنه لم يجسر على تنبيهها خوف إزعاجها، وطمعا في إطالة النظر إلى وجهها، الذي كان قد سرى إليه دم الحياة، فكساه لونا ورديا زادها بهاء وجمالا، فانتعش الفتى وقد أخذ حسنها بمجامع قلبه.
ثم تململت الفتاة، وفتحت جفنيها فوقع نظرها على الشاب جاثيا أمامها، والذهول قد تسلط عليه، والحنان ظاهر في نظراته، فأثر بها منظره، وراقها جمال طلعته الممزوج بالفراسة والذكاء، فابتسمت له ابتسامة شفت عما خامرها من الشكر، ثم حاولت النهوض فلم تستطع؛ لشدة ما أخذها من الضعف والتعب، فأسندت نفسها إلى ذراعه، ومالت بنظرها إلى ما حولها فرأت الجواد صريعا، فأدركت للحال ما ألم بها من الخطر، وعلمت سبب وجود الرجل إلى جانبها، وأنه هو الذي خلصها من وهدة الموت بهمته وشجاعته، فقالت له بصوت أحياه الأمل فأبعد عنه الوجل: إن حياتي من عندك أيها الشهم الكريم وإن لساني لعاجز عن إيضاح شكري لحنانك وبسالتك، ولكني أسأل الله الكريم، أن يكافئك عني خيرا.
فبهت من كلامها ولم يدر بم يجيبها؛ لأن رنات صوتها الرخيم أثرت في فؤاده، ولم تفسح له مجالا للنطق، فاستعاض عن الكلام بنظرة تعني أنه هو المدين لنعمة القدر الذي سخره لنجاتها.
وبعد حديث جرى بينهما علم أن اسمها فاتنة، وأنها ابنة حاكم البلاد، فساءه ذلك جدا، إذ تأكد أنها من غير مذهبه، وأن بينهما حاجزا منيعا من الدين الذي لا يقوى على اختراقه، ولما زال اضطرابها وعادت إليها قوتها سارت - وهو إلى جانبها - حتى اقتربت من بلدها، فافترقا وفي صدر كل منهما نار من الوجد حامية.
Página desconocida