وجلست روزه بعد خروجه تفكر في حبيبها اليائس، وما كان عليه في تلك الساعة من الحزن، وما ستئول إليه حاله بعد اطلاعه على صفح والدها، فتارة تمثله واقفا يودع الحياة بكلمات محزنة، وقد صوب مسدسه إلى صدره وهو يستعد للموت، ويتحسر على حياة تضطره الأنفة والشهامة إلى مفارقتها، وتارة تراه ممتدا على الأرض والدم يسيل من جسده، وقد فارقت ذلك القلب الخافق حرارة الحياة، وغشي الحمام تلك العينين اللامعتين ففارقتهما نظرات الحنو والحب، فتذوب محبتها لدى ذلك المشهد المؤلم، وتنادي الله بحرارة متوسلة إليه ألا يحقق ظنونها وهواجسها، وأن يوصل إليه رسولها قبل فوات الوقت.
ثم جثت وحاولت أن تصلي ولكن دون جدوى؛ كانت تحاول جمع شتات أفكارها وتسكين ثائر بلابلها، فما كانت إلا لتزداد تعمقا في المخاوف، ومما كان يزيد في غمها وقلقها ما ذكرته من المقابلة الأخيرة التي تمت بينها وبين عزيز، وما أبدته له حينذاك من التحقير والازدراء، فخشيت أن يكون ذلك داعيا لتماديه بالقنوط والانتحار رغما عن صفح أبيها، وعفوه، فكبر عليها الأمر، وتمثل لها الخطر محدقا بعزيزها من كل جانب، وعظم عليها من جهة أخرى أن تكون سببا في سفك دم زكي وقتل نفس بريئة، فسقطت في حيرة لا تجد سبيلا للمناص منها، ولا سيما وأن الوقت لا يسمح لها بالتفكير والاصطبار.
وإنها لكذلك إذ رأت الخادم خارجا والكتاب في يده، وكان قد تأخر بعض دقائق لارتداء ملابسه، فاستمهلته وأسرعت في الحال، فجعلت على رأسها قبعة، وسدلت على وجهها نقابا قاتما، وسارت برفقته لا يهمها سوى نجاة حبيبها. وكانت تسير بأسرع ما يمكنها، وكلما بلغت منزلا التفتت نحو خادمها منتظرة أن ترى منه إشارة تعني بأنه الضالة المنشودة، وإذ لا تجد منه ذلك تعود إلى الاستغراق في تأملاتها مواصلة السير بهمة لا تعرف الكلل، وأفكارها متجهة نحو عزيز تود لو يعيرها النسيم خفته، أو الطير جناحيه لتوافيه قبل أن يحل الأجل، ويسبق السيف العذل.
وما صدقت أن رأت خادمها وقف أمام منزل صغير، وأشار إليه قائلا: هنا يا سيدتي.
ثم قرع الباب، ولبث كلاهما بانتظار من يفتحه.
وكانت الدقائق طويلة جدا في عيني روزه، التي مع ما هي عليه من الخوف على حياة حبيبها، قد أدركت في ذلك الموقف عظم جرأتها، وعدم مناسبة خروجها من منزلها على تلك الحال خوف انكشاف أمرها، وافتضاح سرها، غير أنها تذكرت وعد أبيها بقبول عزيز صهرا فهان عليها الأمر، وجعلت تشجع نفسها، فلم تزد إلا قلقا وخوفا، وأخيرا شعرت بدوار، وضعف شديد، كادت تسقط لفعلهما لولا بعض الأمل الذي كان يمدها بالقوة؛ لتقوم بما أتت لأجله، فاستندت إلى الحائط، وجعلت يديها التي كانت أشبه بقطعة من الجليد على قلبها الخافق لتسكن اضطرابه، فما كان إلا ليزداد خفوقا كلما تصورت دنو ساعة اللقاء، ولا سيما حين سمعت صوتا لخطوات خفيفة تقترب من الداخل.
ثم فتح الباب، وظهر منه خادم عزيز، فسألته عن سيده، فأجاب أنه غائب.
فطلبت روزه أن يدخلها إلى مخدعه لتنتظر عودته، ظنا منها أنه لا بد أن يحضر قريبا.
فسار أمامها في رواق انتهيا منه إلى ردهة صغيرة يدخل منها إلى حجرتين، فاقترب الخادم إلى أحد البابين، وأشار إلى الزائرة بالدخول، ثم انحنى أمامها، وعاد إلى خادمها فرحب به، وجلس وإياه قرب الباب يتحدثان كصديقين.
أما روزه فدخلت بخطوات مضطربة إلى أن توسطت الغرفة، فأجالت فيها نظرا مسرعا كأنها تبحث عن محتوياتها، وتستطلع من مجمل أثاثها، وكيفية ترتيبها؛ ما كانت عليه حالة حبيبها لدى خروجه منها، فرأت في إحدى زواياها سريرا تدل ظواهر حاله وشكل ثنيات الملاءة التي تغطيه على استلقاء شخص فوقه دون اعتناء، فأدركت أن عزيزا لم يذق لذة الكرى في الليل الغابر، ولا نزع عنه ملابسه، كما يتبين من أثر حذائه فوق الأغطية البيضاء.
Página desconocida