وفي العقد الثاني من هذا القرن العشرين جاءت الجيوش من الغرب، رجال زرق العيون، متحدرون من ألفريد الكبير السكسوني ووليوم الفاتح النورمندي، وبمساعدة العرب انتصروا على الترك لكنهم حاولوا الحلول محلهم. •••
وبنضال دءوب، عنيف حينا وسلمي حينا آخر، انتصرت الإرادة القومية وقام العراق الحديث مملكة حرة متطلعة نحو المجد.
الحقائق ...
جئت بغداد من أفق كان في قديم الزمان كثير الأنوار والألوان. جئتها وفي القلب أثر عميق مما لا يزال من تلك البهجة في كتب التاريخ والشعر. بل جئتها من عالم الأحلام المدبجة حواشيه بالذهب والأرجوان. وبكلمة أخرى لقد جئت بغداد من عالم «ألف ليلة وليلة». فهل يعجب إذن لخيبتي، وهل يستغرب غمي؟
بيد أن تباين الحقيقة والخيال هو في يومنا هذا كما كان في الماضي. ولكن الزمان يلبس الأشياء ثوبا من التقليد والتقديس، ويرفعها في عيون الناس إلى منزلة الوحي المنزل. يحق لنا إذن - ونحن في هذا الزمان نعرض للبحث حتى الوحي المنزل - أن نبحث وننتقد ما يجيئنا به التاريخ قبل أن نقبله مصدقين معجبين، أو نرفضه مستنكرين.
وليس هذا بالأمر السهل. من ذا الذي يستطيع أن يجيب مثلا على هذا السؤال: أين تنتهي الحقيقة في عهد العباسيين الذهبي، وأين يبدأ الخيال؟ وما هي الحقيقة في عصر هرون الرشيد؟ وما هي الحقيقة في بغداد الرشيد؟ هل ننكر ما جاء بخصوصها في «ألف ليلة وليلة» وفي التواريخ كثير مما في تلك الحكايات؟ لا شك أن بغداد كانت كدمشق أو كالقاهرة، أو كانت تفوقهما في عمرانها وبهجتها. ولا شك أن الرشيد كان يفتخر بها، ويفاجئها من حين إلى حين بطرائفه وغرائبه. ولا شك أن الصيادين كانوا ينعسون بل ينامون على شاطئ دجلة، وهم يرمون بشباكهم للأسماك. إني أصدق كل ذلك؛ لأنه الحقيقة بعينها حتى في هذا الزمان. فهناك بغداد تزين البلاد، وهناك مليك مثل الرشيد من صميم العرب، وله مثل ذلك العباسي رغبة بالتنكر فرارا من أبهة الملك، وحبا باستطلاع أخبار الرعية. وهناك كذلك الشعراء والصيادون.
أما تلك الصلة الأخوية، الرشيدية، «الألفليلية»، بين الملك والصياد فإنك لا تجدها. قد يكون الملك ديمقراطيا، وقد يكون الصياد فيلسوفا سقراطيا. ولكنهما يسيران كل في سبيله، في خط مستقيم أو معوج، ولا يلتقي الخطان حتى يجيء صاحب «أعذبه أكذبه» أو صاحب الحكايات الشهرزادية، فيرى ذات يوم ظل الملك قريبا من ظل الصياد، فيلفق القصة، يؤلف الأسطورة، التي يتذبذب فيها الخطان - الظلان - ويدنو الواحد من الآخر، ثم يتلامسان، ثم يلتفان ويشتبكان، ويتلونان بألوان قوس قزح، ويتكونان أشكالا فنية، رومنطيقية، «ألفليلية» تبهر الأبصار، وتسحر ألباب الصغار والكبار. •••
لست أنكر سحر الآيات، وأعاجيب الحياة، حتى في هذا الزمان. فالصياد البغدادي موجود كما قلت، والملك كذلك من حقائق الوجود. ولا يستغرب إذا أمعن الصياد في الأحلام، وود أن يكون ملكا من ملوك الزمان. ولا يستغرب إذا اشتهى الملك في بعض الأحايين، أن يكون من الصيادين. وقد تتحقق رغبة الاثنين، فيهتف الشعراء قائلين: لا حقيقة ثابتة غير حقيقتنا. الحقيقة الشعرية فوق كل الحقائق.
وإني أسأل سؤالا آخر: كم كان حظ عامة الناس من تلك المدينة العباسية الباهرة؟ هل كان يتمتع الصياد والملاح والإسكاف والفلاح بشيء من تلك النعمة التي كانت تبسط أجنحتها الذهبية في البلاط وفي قصور البرامكة؟ وفي كل مكان قريب من ظلال القصور الملكية والأميرية؟ هل كان للسواد من الناس بعض ما للخاصة من الثروة والثقافة والسعادة؟ هل عم بغداد ذلك الزهو والسرور، وذلك الترف والتأنق في العيش ، وذلك المجد والعز والتذوق؟
لا يلزم أن نعود إلى التاريخ لنجيب على هذا السؤال. فإن لدينا في الحاضر الدليل والبرهان. إن في شرقنا اليوم - في المدن التي لا تزال شرقية، أو لم تمس بغير القليل من مدنية الغرب في العمران - إن فيها من ظلمات الأسواق ومقاذرها، ومن ازدحام الحياة وموبقاتها، ومن النتانة والعفونة والأمراض، ما لا تجده في المدن الأوروبية إلا محصورا في بعض أحيائها التي تدعى
Página desconocida