فقالت الملكة: «ألا يجوز لنا أن نعرف أيها الملك كيف اتصلت إلى معرفة أصل هذا الأمير الجليل؟»
فقال: «أتتنا رسائل من بلادنا تقول إن ملك اسكتلندا قبض على ثلاثة من أشرافنا وأخذهم رهنا، مدعيا أن ابنه الذي ظنه أولا في جرمانيا هو معنا في هذه الحرب، ثم إن ده فو رأى خادم هذا الأمير في عسقلان، وكان قد ذهب إليها ليكشف لده فو هذا السر الذي كان يجب عليه أن يكشفه لنا ولا يتحمل مشقة السفر.»
فقال ده فو: «يجب أن تعذره؛ لأنه يعلم أنني ألين قلبا من آل بلنتجنت.» فصرخ الملك: «أأنت ألين منا قلبا؟ معاذ الله! فنحن في السلم إنس وفي يوم الوغى جان، نحن ألين الناس قلبا، أليس الأمر كذلك يا جوليا؟» قال ذلك والتفت إليها وأخذ يدها ويد البرنس داود بيده فصبغ الخجل وجنتيها وكلل العرق جبينها.
وكان السلطان صلاح الدين قد أدب مأدبة للملك ريكارد ورجاله ودوق النمسا ورجاله، فأتى الضيوف إلى مكان الوليمة فوجدوه خيمة فسيحة الرحاب مفروشة بالبسط الفاخرة، وفيها سماط من الحرير الصيني الموشى بالذهب، وعليه صحاف الطعام وكئوس الشراب، وهي من الذهب الإبريز والخزف الصيني النادر المثال، والشراب مبرد بالثلج ومطيب بالطيوب الغالية الأثمان، وحول السماط وسادات من الحرير والكشمير ليجلس عليها الفرسان بدل الكراسي، وجدران الخيمة مغطاة بالأعلام والبيارق التي غنمها السلطان في حروبه وفتوحه.
وقبل أن يدخل الضيوف ركض نكتبانس القزم إلى السلطان وهو يقول باللاتينية: «خذها خذها.» ثم قص عليه قصة وهو يرتجف ويرتعد، وحينئذ بوقت الأبواق معلنة قدوم الضيوف، فقام صلاح الدين للقائهم وترحب بهم وهنأ البرنس داود (أي السر وليم) على الظفر. وقبل أن يشرعوا في الطعام التفت البرنس إلى الجلاب الذي أمامهم، وكان مبردا بقطع الثلج وقال: «عجبا ممن لا يعرف الجليد ويبرد شرابه بالثلج!» أشار بذلك إلى ما جرى بينهما من الحديث بقرب درة القفر. فأجابه السلطان: «البس لكل حالة لبوسه، وأنا لم يحسن بي أن أكلمك حينئذ إلا بما كلمتك.» فلما سمع دوق النمسا ذكر الثلج التفت فرأى كئوس الجلاب مبردة به فتناول كأسا كبيرة وجرع جرعة منها وناولها لرئيس الهيكليين فهم أن يشربها، وكان صلاح الدين واقفا بجانبه فنادى القزم فأقبل وهو يقول باللاتينية: «خذها خذها.» فارتعدت فرائص المركيز وأدنى الكأس من فمه ليخفي اضطرابه، وقبل أن تمسها شفتاه استل صلاح الدين سيفه وضربه به فأطاح رأسه عن كتفيه وبقيت جثته لحظة قائمة وقابضة الكأس، فأجفل دوق النمسا حاسبا أن رأسه يكون الثاني ووضع بقية الفرسان أيديهم على سيوفهم، فالتفت إليهم السلطان وقال: «لا تخف أيها الدوق، وأنت أيها الملك لا تغتظ مما جرى، فإنني لم أقتل هذا الخائن لأنه حاول قتلك غدرا، ولا لأنه تبعني وتبع هذا الأمير (مشيرا إلى البرنس) وحاول الإيقاع بنا، ولا لأنه جيش الموارنة علينا في هذا الوقت حتى اضطررت أن أضع جيوشي على مقربة منا خوفا، بل لأنه منذ أقل من نصف ساعة طعن مركيز منسرات طعنة قضت عليه لكي لا يعترف بالمكايد الكثيرة التي كان مشتركا معه فيها.»
فصرخ ريكارد: «أقتل كنراد؟! أوقتله هذا الرجل؟!» إنني لا أشك في قولك أيها السلطان المعظم، ولكن لا بد من إقامة البينة على ذلك وإلا اضطررتنا إلى ما لا نحب.»
فقال السلطان: «إن الله سبحانه وتعالى يكشف الخفيات، وما على الله أمر عسير، ثم قص عليهم ما أخبره به القزم وهو أنه دخل خيمة المركيز فوجده نائما بفعل الدواء، ولم يجد عنده أحدا، ثم رأى رئيس الهيكليين مقبلا فاختفى في زاوية من الخيمة بحيث يرى ولا يرى، فدنا الرئيس من المركيز ففتح المركيز عينيه وكأنه أوجس منه خيفة، فجعل يتوسل إليه أن يرفق به، فقال له الرئيس: «قد أتيت لأحلك.» ثم طعنه بخنجره في صدره وهو يقول: «خذها خذها.» فقتله، وإن كنتم في ريب من ذلك فانظروا في جثة المركيز.» فقال الملك ريكارد: «إننا متأكدون صدق مقالك، ولكن علام قتلته بيدك؟ وعلام قتلته هذه الساعة؟» فقال السلطان: «إنه لو أكل من طعامي وشرب من شرابي لحرم علي قتله ولزمتني حمايته، ولو كان قاتلا أبي.» ثم أمر فرفعوا الجثة وأزالوا البسط الملطخة بالدماء، وأقام لضيوفه بحقوق الضيافة، ولكن كانت أفكارهم مضطربة فلم يلتذوا بطعام ولا بشراب.
وفي اليوم التالي عقدت شروط الصلح بين السلطان صلاح الدين والملك ريكارد ومن معه من الأمراء الصليبيين، كما هي مقررة في كتب الأخبار، وعاد الصليبيون إلى أوطانهم واقترن البرنس داود بالأميرة جوليا، وأرسل إليهما السلطان صلاح الدين هدية نفيسة وفي جملتها الطلسم الذي شفى به الملك ريكارد، وهو حجر صغير مثلث الشكل أحمر اللون، ولم يزل هذا الحجر في اسكتلندا إلى يومنا هذا. ا.ه.
الخاتمة
قد لخصنا هذه الرواية من رواية إنكليزية شهيرة اسمها الطلسم (تلسمن) للكاتب البليغ السر والتر سكوت، وتصرفنا فيها بزيادة، وإسقاط، وتغيير، وإبدال؛ لتوافق ذوق القراء في هذه البلاد، وهي تطابق الحقائق التاريخية في أكثر وقائعها. وأشهر مخالفتها لها في أن دوق النمسا لم ينصب علمه بجانب علم الإنكليز في وسط المحلة، بل على أسوار عكاء، ومركيز منسرات لم يقتله رئيس الهيكليين بل اغتاله اثنان من الخوارج في مدينة صور، وصلاح الدين لم يقتل رئيس الهيكليين بل قتل رينو ده شاتيليون أمير الكرك. ومن جملة فوائد هذه الرواية الجليلة تفصيل عوائد الناس في تلك الأيام، وتمثيل أحوالهم أحسن تمثيل، فعسى أن تقع عند القراء الكرام موقع القبول والاستحسان.
Página desconocida