فقام مركيز منسرات وقال: «دعواي عليك أنك تحرمنا نحن إخوانك كل ما نستحق من الشهرة.» ثم وقف رئيس الهيكليين وقال: «إن دعواي أعظم من دعوى مركيز منسرات، وقد تقولون إنه لا يليق بي أن أتقدم غيري في هذا المحفل الحافل بالأمراء والرؤساء وأبين ما لنا من الشكاوى على هذا الملك، ولكن قد اشتدت الأزمة فيجب أن نبين له في حضرته ما نقوله في غيبته؛ إننا نعجب ببسالة ملك إنكلترا ونباهي بها، ولكننا نستاء جدا حينما نراه يغتنم كل فرصة لإظهار سيادته علينا كأننا من بعض أتباعه، فنحن من تلقاء أنفسنا نقر له بالبسالة والغيرة والثروة والقوة ونخضع له في أمور كثيرة، ولكنه إذا اضطرنا إلى ذلك اضطرارا انحططنا في عيون رجالنا من رتبة المحالفين لهذا الملك إلى رتبة التابعين الخاضعين له، وزالت سلطتنا عنهم وثلت عروشنا. وقد طلب منا أن نصدقه الخبر، فلا أظنه يستاء إذا قام واحد مثلي قد ترك أمجاد الدنيا وكل سلطة زمنية، إلا فيما يعود إلى رفع شأن هيكل الله وأجابه إلى ما طلب، لا سيما وأن ما تكلمت به يصدق له كل أحد من هؤلاء الحضور.»
فثار الدم إلى رأس الملك ريكارد حينما سمع الرئيس يتكلم بهذا الكلام، فاحمرت وجنتاه وتقطب حاجباه وتطاير الشرر من عينيه، ولا سيما حينما رأى الجميع يظهرون علامات الاستحسان، فقال في نفسه: «إذا أجبته جواب الغيظ والانتقام كما يستحق خطابه أنلته مبتغاه فأثبت علي دعواه.» فتربص قليلا حتى هدأ روعه ثم رفع يده وقال: «أحقيق أن إخواننا مغتاظون منا لأجل ما يرونه فينا من حدة الطبع، ومؤاخذونا بهفواتنا التي تصدر منا، إما لشدة غيرتنا وإما لخشونة طباعنا؟ فلم يخطر على بالي أن هذه الهفوات التي تصدر مني عن غير قصد رديء تقع هذا الموقع في عيون حلفائي، فيرتدون عن هذا الجهاد المجيد بسببي ويرجعون عن أورشليم بعد أن فتحت سيوفهم الطريق إليها، بل كنت واثقا أن حسناتي تزيد على سيئاتي لأني إن كنت أول من يخرج إلى القتال فأنا آخر من يرجع عنه، وإن كنت أهتم برفع علمي على الأماكن التي نتغلب عليها فأنا أترك الغنائم كلها لغيري، وإن كنت أتشبث برأيي في إجراء أمر من الأمور، فأنا أول من يجريه بدمه ودم رجاله، وإن كنت آمر جنود غيري عند الضرورة كما آمر جنودي، فأنا أعاملهم كما أعامل جنودي حينما أقسم عليهم الأطعمة والأدوية التي لا يقدر رؤساؤهم أن يبتاعوها لهم، وإني لأخجل من تذكيركم بهذه الأمور، ولكن الشيء بالشيء يذكر فلننس الماضي ونهتم بالاستقبال، فسأردع نفسي وأخمد عنفواني حتى لا أكون عثرة في هذا الطريق المجيد الذي يجبركم دينكم وشرفكم أن تسيروا فيه ، فخير لي أن أموت موتا من أن تكون هفواتي وسقطاتي سببا لحل هذا الارتباط المجيد وتفريق هؤلاء الأمراء العظام، والله يشهد أني عن طيب نفس أتنازل عن كل حقوقي، بل عن قيادة رجالي ونخضع جميعا لأمر من تعينونه قائدا علينا، وإن كنتم قد مللتم حمل السلاح وسئمت نفوسكم من تواصل الحروب فأبقوا معي عشرة آلاف من جنودكم، ومتى تغلبنا على مدينة صهيون لا نكتب على بابها اسم ريكارد، بل أسماء الأمراء الذين أبقوا جنودهم معه ...»
فلم يتم كلامه حتى دبت الحمية في نفوس الحاضرين وتصوروا الغرض الذي جاءوا لأجله، فصرخوا قائلين: «هيا بنا قلب الأسد لا يقودنا غيرك في هذا الجهاد، هيا بنا إلى أورشليم، هيا بنا إلى أورشليم، هذه هي مشيئة الله.» وامتد النداء إلى الحرس ومنهم إلى الجنود وانتشر في كل المحلة، فلم تكن تسمع إلا كلمة «هيا بنا إلى أورشليم، هذه مشيئة الله.» ولم يعد أحد يتكلم في مجمع الأمراء إلا فيما يتعلق بالحرب والزحف على أورشليم حالما تنتهي الهدنة. والمخالفون لذلك لم يجسروا أن يقولوا الخلاف، ثم انفض المحفل على أن يستعدوا للحرب.
وخرج مركيز منسرات ورئيس الهيكليين ومشيا معا، فقال المركيز: «طالما قلت لك إن أشراكك يقطعها ريكارد كأنها خيوط العنكبوت. انظر كيف ينقاد إليه هؤلاء المجانين ويتقلبون مع الأهواء كأنهم ريشة بمهب الرياح.» فقال المركيز: «نعم، ولكن الريح تهجع فيقف الريش ولا يتحرك.» فقال الرئيس: «وهب أنهم انحلوا من الآن، فالأرجح أن ريكارد يصير ملكا على القدس ويتهادن مع صلاح الدين على الشروط التي يريدها.» فأجابه المركيز: «أتظن أن ريكارد يصاهر صلاح الدين؟ ذلك محال؛ ولذلك سعيت فيه لإغاظة الفريقين؛ لأن أخذ ريكارد للبلاد بالسلم يضر بنا مثل أخذه لها بالسيف.» فقال الرئيس: «لم تصب المحز على ما فهمت من رئيس الأساقفة؛ لأن ريكارد ميال إلى المصاهرة، وكذا سرقة العلم لم تجد نفعا، فإن كانت هذه جعبة حيلك فقد فرغت. ولكن أتعرف أحدا من الخوارج؟» فقال: «كلا، ولكنني أعرف أنهم من الغلاة في الإباحية .» فقال الرئيس: «أنا أعرف واحدا منهم قد نذر أن يريح الدنيا من هذا الملك، وهو الآن في قبضة يدي.» فقال المركيز: «نعم نعم نعم، والخطب جسيم، ولكن للضرورة أحكام.» فقال الرئيس: «قد أفشيت لك هذا السر لتكون على حذر؛ لأن هؤلاء الإنكليز سيهيجون ويموجون.»
الفصل العشرون
كم سمعنا بل رأينا أسدا
صاده طرف المهى المكتحل
لما رأى ريكارد أنه نال بغيته وألف بين قلوب الصليبيين حتى وطدوا عزائمهم على مداومة القتال، عزم أن يصلح ما وقع في بيته من الخلل، ويستقصي أخبار علمه المفقود، فأرسل البارون ده فو ليحضر له السيدة كالستا، وهي الأولى بين نساء الملكة، فلما بلغ خيمة الملكة وأخبرها بأمر الملك اضطربت، وقالت للملكة: «ماذا أقول له يا مولاتي؟» فقال لها البارون: «لا تخافي أيتها السيدة؛ لأن الملك قد حجب دم الفارس ووهبه للحكيم، فلا يمكن أن يعامل السيدات بالقسوة.» وأما الملكة فقالت لها: «اخترعي له قصة من عند نفسك ولا تخبريه بشيء مما جرى.» فاعترضتها الأميرة جوليا وقالت: «قصي عليه القصة كما جرت تماما وإلا قصصتها أنا عليه.» فقال البارون: «العفو منك أيتها الملكة، أنا أرى أن الأميرة جوليا مصيبة فيما قالت؛ فإن الملك وإن صدق كل ما تقولينه أنت له لا يصدق كل ما يقوله غيرك.» فقالت السيدة كالستا: «قد أصاب البارون، فإني لو قدرت على تلفيق القصة، لما تجاسرت أن أقصها عليه.» ثم ذهبت مع البارون وأخبرت الملك بكل ما جرى، وألقت اللوم على الملكة. وكانت سؤرة الغضب قد زالت من رأس ريكارد كما تقدم، فقال لها: «اذهبي وقولي لمولاتك إنني سأزورها بعد قليل.» فعادت إلى الملكة وقالت لها: «إن الملك سيتظاهر بالغيظ في أول الأمر حتى يراك تخضعين بين يديه وتطلبين السماح، وحينئذ يسامحنا كلنا.» فقالت لها الملكة: «كم ظبية تنجو وصياد يقع! فسيجد ريكارد غير ما ينتظر.» ثم لبست أفخر حللها وجلست تنتظره، فأتى وفي نيته أنه داخل على قوم مذنبين ليؤدبهم أو ليسمع استرحامهم، فإذا الملكة قد استقبلته باللوم والعتاب وقالت له إنها لم تأمر القزم ليأتي بالفارس إلى خيمتها، ولا حسبت أنه يحدث شيء مما حدث. ثم جعلت تعنفه لأنه بخل عليها بحياة إنسان واحد استحق العقاب بسببها، وكانت تبكي وتسكب العبرات وتقول له: «لو بقيت على عزمك وقتلت هذا الفارس لنغصت عيشي حياتي بطولها، وبقي خياله يترصدني في منامي وقيامي، فلا أفهم كيف تدعي بمحبتي ولا تعفو عن رجل واحد يورثني عقابه التعاسة والشقاء كل أيامي.» وكانت تتكلم وتبكي من كبد حرى، فاحتار الملك وحاول أن يقنعها بالأدلة فلم يجد منها إلا اللوم والتعنيف، فدارت الدائرة عليه واضطر أن يدافع عن نفسه ويطيب خاطرها بقوله إن الفارس لم يزل حيا وإنه وهبه للطبيب العربي فهو عنده بمأمن من المرض أيضا، ولما قال لها ذلك زاد بكاؤها ونحيبها، وقالت له: «إنك أكرمت هذا الطبيب وهو من أعدائنا أكثر مما أكرمتني وأنا زوجتك!» فقال لها: «اسمعي يا برنغاريا، إن هذا الطبيب قد نجاني من الموت، فإن كان لحياتي قيمة عندك فلا تستعظمي عليه هذه الهبة التي لم يقبل سواها.» ولما قال ذلك وجدت أنها بلغت غايتها وأن الزيادة تفريط، فقالت: «أحسنت يا حبيبي.» فاصطلحا وألقيا اللوم كله على القزم فنفياه من بلاطهما، وأجمع رأيهما على إهدائه هو وزوجته إلى السلطان صلاح الدين مع الهدية التي كان ريكارد عازما على إرسالها له لنواله الشفاء عن يد طبيبه.
وبقي على ريكارد أن يقابل الأميرة جوليا في ذلك اليوم، فاستعد لتعنيفها الشديد، ولكنه لم يخفه كما خاف تعنيف زوجته، فدخل خيمتها وكانت بجانب خيمة الملكة، وجلس بجانبها ثم قال: «إن ابنة عمنا جوليا غاضبة علينا ولا عجب، فنحن لا ننكر أننا انقدنا كرها عنا إلى اتهامها بأمر مخالف لما نعهده فيها، ولكننا ما دمنا في هذه الدنيا فنحن عرضة للخطأ، أفلا تسامحين نسيبك ريكارد على ما فرط منه في حدة غيظه؟» فقالت: «من لا يسامح ريكارد إذا كان الملك يسامحه؟!» فقال لها: «طيبي نفسا وقري عينا، وانزعي هذا البرقع الأسود، فقد بلغك أنه لا داعي لحزنك، فعلام تلبسين ثوب الحداد؟» قالت: «إني حزينة على شرف بلنتجنت الذي زال، وعلى المجد الذي زايل بيت أبي.» فعبس وجعل يردد هذه الكلمات، وهي: «الشرف الذي زال، المجد الذي زايل بيت أبي.» ثم قال: «أخبريني يابنة العم بم أخطأت؟» فقالت: «إن ابن بلنتجنت إما أن يعاقب أو يسامح ولا يليق به أن يستعبد رجلا مسيحيا حرا وفارسا شجاعا باسلا، ويهبه لأعدائه عبدا، فلو قتلته لكان قتله قساوة، ولكن عليه صورة العدل، أما استعباده على هذه الصورة فهو الظلم بعينه.»
فقال: «إذا كنت من اللواتي يعددن الحبيب المفارق كالميت، فإننا نرسل في طلبه فيحضر في أقل من لمحة عين، فنستقصي البحث لعلنا نجد سببا يوجب موته لا نفيه.» فاحمر وجه الأميرة جوليا وقالت له: «إليك عن هذا المزاح المذموم، واعلم أنك حرمت معسكر الصليب فارسا من فرسانه ومنحته لأعدائنا، وفتحت لأهل الظنون والأغراض بابا ليقولوا: «إن ريكارد قلب الأسد قد نفى هذا الفارس من معسكره خوفا من أن يقاسمه الشهرة!»» فصرخ ريكارد قائلا: «ألي تقولين هذا القول؟! أأنا أغار من أحد؟! ليته كان هنا الآن حتى أطرح تاجي وصولجاني وألاقيه في ميدان النزال، وأريك أن ريكارد بلنتجنت لا يخاف مخلوقا ولا يغار من إنسان، هذا ليس رأيك في فلا يكن غيظك أو حزنك أو فقد حبيبك سببا لسوء ظنك في نسيبك.» فقالت له: «أتسميه حبيبي؟! نعم، إنه كان يحبني وقد ضحى حياته ليثبت حبه لي، وأنا على ضعفي كنت له نورا يرشده في سبيل البسالة والمجد، على أن كل من يقول إني نسيت منزلتي أو أنه تعدى حدود منزلته فقوله باطل، ولو كان الملك نفسه.» فقال لها: «لا تنسبي إلي يا عزيزتي أقوالا لم أقلها، فإني لم أقل إنك أكرمت هذا الفارس أكثر مما يستحقه هو أو غيره منك أو من أية أميرة كانت، ولكني أعلم كيف يبتدئ الحب، ولكن لا فائدة من الكلام مع فتاة تظن نفسها أحكم من كل الناس.» ثم استأذن منها وخرج.
Página desconocida