فقال الطبيب: «لا يليق بالإنسان أن يشهد لنفسه، ولكن هذا المريض قد أذابت الحمى لحمه وجففت ماء الحياة من عروقه، فلم يبق بينه وبين الموت إلا خطوة، وسترون كيف أنه يقوم معافى بعد قليل. فهذه هي الشهادة التي تطلبان، وبذا يقضى الأمر الذي فيه تستفتيان.» ثم أخرج إسفنجة من إناء فضي ووضعها على أنف المريض فعطس، واستيقظ وجلس في فراشه هيكلا من عظام. فقال له البارون: «أتعرف من نحن؟» فأجاب: «كلا يا مولاي، ولكن يظهر لي أنك أنت أمير من أمراء الإنكليز، وهذا من الأساقفة العظام.» وحينئذ قال الطبيب: «إن هذا أعدل شاهدي وقد صار نبضه منتظما مثل نبضكم.» وقرب يده إلى الأسقف ليجسها، فابتعد الأسقف عنها، وأما البارون فجسها وقال: «إن الرجل قد شفي من الحمى! فهلم أيها الطبيب إلى خيمة الملك.» ثم التفت إلى الأسقف وقال: «ما قول سيادتكم ؟» فقال الطبيب: «أمهلوني ريثما أجرع هذا الرجل الجرعة الأخيرة من الدواء.» ثم أخرج كأسا من الفضة وصب فيها قليلا من الماء ووضع في الماء شيئا موضوعا في خرقة أبقاه فيه خمس دقائق، ثم أخرجه وسقى الماء للمريض وقال له: «نم الآن وقم معافى بإذن الله تعالى.»
فقال الأسقف: «أتشفي الملك بهذا العلاج البسيط؟» فقال الحكيم: «نعم، إن لم يكن ملوككم من طينة غير طينة بقية الناس.» فقال البارون: «قم بنا سريعا إلى خيمة الملك فإن شفيته فبه، وإلا أصابك من يدي مرض لا يقبل الشفاء.» وقبل أن يخرجا رفع المريض رأسه، وقال: «بالله عليكما أخبراني أين سيدي.»
فقال الأسقف: «إن سيدك قد أرسل بمهمة ولا يرجع قبل بضعة أيام.»
فقال البارون: «لماذا تخدع الرجل؟ يا صاح، إن سيدك قد رجع وستراه عن قريب.»
فألقى المريض رأسه على الوسادة ونام، وفيما هم خارجون، قال الأسقف للبارون: «أحسنت؛ فإن تطمين المريض لازم لشفائه.» فقال له البارون: «ما تعني يا مولاي؟ أتظن أنني أتكلم بالكذب ولو أحييت بكلامي عشرة مثل هذا الرجل؟!»
فقال الأسقف: «ألم تقل إن سيده؛ أي الفارس صاحب النمر الرابض، رجع من سفره؟»
فقال: «نعم، قلت ذلك، وقد رأيت هذا الفارس منذ بضع ساعات، وتكلمت معه، وهذا الطبيب أتى بصحبته.» فقال الأسقف: «ولماذا لم تخبرني قبل الآن برجوعه؟»
فقال البارون: «ألم أقل لك إن الطبيب جاء مع هذا الفارس؟! ولكن ما دخل رجوع الفارس بحذاقة الطبيب وشفاء الملك؟»
فرفس الأسقف الأرض برجله وقال: «له دخل كبير.» ثم قال: «ولكن أين ذهب، فلا بد من أن خطأ قد حدث؟»
فقال البارون: «هو ذا خادم آخر، فلنسأله عن سيده.» فنادياه ولما وقف بين أيديهما سألاه عن سيده، فقال: «إن قائدا من القواد دعاه ليمضي إلى الملك قبل مجيئكما.» وحينئذ بلغت حيرة الأسقف أشدها فاستأذن من البارون بالانصراف، فتبعه البارون بنظره مستغربا أمره إلى أن غاب عنه، ثم سار هو والطبيب نحو خيمة الملك.
Página desconocida