ولما فرغت الصحاف والزجاجات هتف بهم عفت قائلا: هلموا إلى الحديقة ...
ورددوا قوله: «إلى الحديقة ... إلى الحديقة.» ومضوا أزواجا وأفرادا.
وأراد محجوب أن يتخلف في اليخت كما كان اعتزم، وتنحى جانبا، بالرغم من سكره الشديد، ولكن لاحت منه نظرة فرأى زوجه متأبطة ذراع عفت بك في مقدمة الراحلين، فهاج دمه، وقرض أسنانه بحنق، وعثر به بعض الإخوان فتأبط ذراعه ودعاه إلى المسير معه، فلم يقاوم، ونسي عزمه ومخاوفه. وكانت الحديقة تموج بجماعات المرتادين نساء ورجالا، بين سائرين يتضاحكون، وجالسين يأكلون ويشربون، وهؤلاء وأولئك ينفثون المرح في كل مكان، وقد ألفت بينهم جميعا دواعي الغبطة وأواصر الشباب والسرور وحب الفكاهة والمزاح، فاشتبكوا في الحديث على غير سابق معرفة، وتراشقوا بالنكات بغير استئذان، صاعدين هضبة معشوشبة أو هابطين مسيلا بين الزهور، معتصمين بخميلة من اللبلاب والياسمين أو عابرين قنطرة على جدول يسيل بلجين القمر، والبدر يطل عليهم من علياء السماء في موكبه الأبدي تحف به الكواكب والنجوم، غامرا الدنيا بنوره البهي، وطابت النفوس وصفت، فراح ذوو الأصوات الجميلة يسجعون الأغاني، وانطلق العازفون يستنطقون الأوتار. وكان أصحاب اليخت يمضون في المماشي باعثين ضجيجا صاخبا، وكان الأستاذ حسني شوكت يعربد بلا مبالاة، فلفت نحوهم الأبصار. وسار محجوب إلى يمين زوجه - وعفت بك إلى جوارها - وقد بلغ به السكر. وكان يتكلم ويضحك، ولكنه كان متغيظا على الفتى الذي يلازم زوجه كظلها، وعلى سكره ومرحه لم يستطع أن ينسى أنه في القناطر، في بلده، على كثب من والديه البائسين، فجعل ينظر فيما حوله بحذر، ويقاوم جهده شعور القلق الذي يساوره. وفكر أكثر من مرة أن يقفل إلى اليخت، ولكنه ظل مستسلما لتيار الرفاق. وحدث أن أوقفهم حسني شوكت عند بائع تين ليبتاع منه، وكان البائع عجوزا يتوكأ على عصا من كبر وعجز. تذكر محجوب أباه في غمضة عين. وجدوا في طريقهم وصورة الرجل لا تفارقه؛ فأبوه إذا قدر له أن يترك الفراش فلن يكون إلا صورة من هذا الرجل، ولن يخطو خطوة بغير عصا يتوكأ عليها. وتفكر مليا ثم قال لنفسه: «ولا يبعد إذا تحطمت وسائله أن يرفع سلة تين ويسرح بها!» ومن يدريه؛ فلعله يسرح الآن بسلة تين في موضع ما من البلد؟ وألقى بطرفه ناحية المحطة وهو يمشي كالمترنح وقد انقبض صدره انقباضا شديدا، لم يعد يشارك الرفاق لهوهم وسرورهم، وولى عنه الصفاء والسرور، وغلبه القلق والحزن والخوف. كان مجيئه خطأ كبيرا، ولكن هل كان تخلفه يغير من واقع الأمر شيئا؟ ... إذا كان تقدير أبيه صادقا فقد مضى عليه الآن ثلاثة أشهر وهو بلا عون، فماذا صنع بنفسه وبأمه ...؟ وكيف واجه عبوس الحياة في عجزه ومرضه؟! ثلاثة أشهر أو يزيد، يونيو ويوليو وأغسطس، وهذا الأسبوع من سبتمبر، أي ذلك الزمن الذي ذاق فيه حلاوة العيش وطيب الحياة. وثقل رأسه، وخمدت نشوته مخلفة خمارا مصدعا، وخانته جراءته التي تستهين بكل شيء، حتى تساءل فزعا: أهذه يقظة ما يسمونه بالضمير؟ أبعد تلك الثورة المدمرة التي شملت حياته الجامعية كلها، وبعد مواجهة التجربة الخطيرة ثلاثة أشهر كاملة، والظفر بالنجاح المطلق، يجد نفسه في هذه الحالة الزرية من الجبن والألم؟ وكور قبضته بعنف، ورفض بعناد أن يعترف بضيعته وخوفه، أو بأن الذي يئن في صدره ضمير، أو بأنه لا يزال يتأثر بعاطفة البنوة. رفض ذلك رفضا عنيدا مغيظا، وقال يعزي نفسه ويشجعها: إن هو إلا الخوف من فضيحة قد تهدد مركزه الاجتماعي، إنه لا يأسى على والديه، ولكنه يخاف أن يدفعهما البؤس إلى إزعاج حياته وتكدير صفو مجده. وموعدهما أول أكتوبر؛ فإذا تسلم ماهيته الجديدة اشترى طمأنينته ببضعة جنيهات يرسلها إلى أبيه، وانتهى من هذا العذاب. وردد هذا الرأي في نفسه، وأكده له تأكيدا شديدا، وحاول أن يستعيد شجاعته وطربه. ولما عاوده شعوره بما حوله وجد نفسه يخبط منفردا، فنظر فيما حوله ذاهلا فلم يجد إلا الأستاذ أحمد عاصم، وسأله عن الرفاق؟ فهز كتفيه قائلا: «لا أدري.» فأدرك أنه ضل الجميع. وشعر بتعب، وغثيان مباغت، ثم انقلب يقيء ...! وأخذه صاحبه من يده إلى اليخت، وهناك مضى به إلى مقصورة، فاستلقى على أريكة وراح في سبات، ولم يدر كم لبث، ولكنه كان يرى في مخيلته دائما بائع التين حتى خاله أباه بالذات، وقد قهره الشقاء على ذل السؤال.
43
وعادوا إلى اليخت وقد نال منهم التعب، وبحت منهما الأصوات، وأبحر اليخت قبل منتصف الليل بقليل. وسألت إحسان عن زوجها فأخبرها أحمد عاصم بأنه نائم في مقصورة، ودعاها لاصطحابها إليه، ولكن عفت تطوع بالمسير بين يديها، وهبطا معا إلى باطن اليخت، وتقدمها في ردهة جانبية إلى باب مقصورة، وفتحه وأوسع لها، فدخلت وتبعها على الأثر ورد الباب، ووجدت المقصورة خالية، وطالعتها في وسطها صورة لعلي عفت على نضد، فتحولت إلى الوراء فرأت صاحبها يقف وراء الباب يبتسم إليها بعينين تنطقان بالهيام والظفر، فأدركت أنه استدرجها إلى مقصورته، وخامرها الخوف، فسألته متجاهلة مقاصده: أين محجوب ...؟
فقال والابتسامة لا تزال على شفتيه، وقد احمرت عيناه الجميلتان من أثر الخمار: سنذهب إليه بعد استراحة قصيرة ...
فسألته بلهجة رزينة: لماذا أتيت بي إلى هنا؟
كانت ثقته بنفسه لا حد لها، فكان جوابه أن جثا على ركبتيه عند قدميها، وأحاط ساقيها بذراعيه، وضمها إلى صدره، وقال لها رافعا إليها وجهه: لا تسأليني يا إحسان، أنت تعرفين كل شيء، والكلام في مثل حالتي تحصيل حاصل، ألم يتكلم قلبي منذ أول لقاء بيننا؟ ألم يصرخ هذه الليلة حتى خفت أن تصك نجواه آذان الحافين بنا ...!
وتولاها الاضطراب والاستياء، وأمسكت بساعديه لتفك السلسلة التي تطوقها، ودفعته بعنف، وصاحت به بصوت خشن غاضب: دعني من فضلك ... دعني ...
ثم أربد وجهها وعبس، فقرأ فيه الجد والنفور، وتورد وجهه خجلا، وأرخى ذراعيه، ونهض واجما دون أن ينبس بكلمة، وفتح الباب حتى غادرت المقصورة، ثم دلها على مكان زوجها وعاد أدراجه. ووجدت محجوب نائما أو كالنائم، وكان في حالة إعياء شديد، وقد علت وجهه صفرة شديدة ... •••
Página desconocida