فتساءل الآخر بانزعاج: كيف يمكن هذا؟! - أنت كثير الأسئلة، قليل الصبر. اعلم يا أستاذ أن البك قد اكترى هذه الشقة لمدة عام!
فتبلبل فكر الشاب، وسأل بمكر: لو ترك لي الخيار لاخترت مسكنا مصريا.
وابتسم الإخشيدي ابتسامة دلت على احتقاره لمكر صاحبه، وقال باستهانة: المساكن الإفرنجية ينعدم فيها التطفل، فإذا رأى البك أن يزورك، زارك في أمن من المتطفلين:
وصوب بصره نحو المتكلم، فوجده يتظاهر بالنظر في بعض الأوراق، وشعر مرة أخرى بالدم يتصاعد إلى رأسه، وخفق قلبه بعنف، وذكر - لا يدري كيف - زميله أحمد بدير وحفلة السيد إكرام نيروز، وتخيل نفسه جالسا في الحفلة، وصاحبه الصحافي يومئ إليه خفية من بعيد ويحدث! دائما الناس، الناس دائما ... أيترك الناس يحطمون سعادته؟
أيهما يفضل؟ أن يكون من المجدودين وليقل أحمد بدير ما يشاء، أم يكون من البائسين ولا يجد الصحافي ما يقوله عنه؟ ... وقطب غاضبا، ألا يزال مترددا؟ ... كيف نسي «طظ» العزيزة؟ يا له من جبان حقير. واشتد غضبه، ثم نظر إلى صاحبه وقال بحدة: ليكن ...
فقال الإخشيدي: سأنتظرك عصر اليوم.
وفيما هو يغادر حجرة المدير وقع نظره على حجرة تقابلها كتب على لافتتها «السكرتير الخاص»، فخفق فؤاده، ومضى إلى الخارج، وجعل يحدث نفسه: قرنان في الرأس، يراهما الجاهل عارا، وأراهما حلية نفيسة. قرنان في الرأس لا يؤذيان، أما الجوع ... سأكون أي شيء، ولكن لن أكون أحمق أبدا؛ أحمق من يرفض وظيفة غضبا لما يسمونه كرامة، أحمق من يقتل نفسه في سبيل ما يسمونه وطنا ... أحمق من يضيع على نفسه لذة لأي وهم من الأوهام التي ابتدعتها الإنسانية. كل هذا حق وجميل، بيد أني منفعل هائج. لماذا؟! ذلك أن العقل لا ينفرد بتوجيه سلوكنا، وبينما يحدث العقل حكمة، يخلف الشعور حماقة؛ فعلى الحكمة أن تمحق الحماقة، وليكن لي أسوة حسنة في الإخشيدي؛ ذلك الأريب، ظفر بوظيفته لأنه خائن، ورقي لأنه قواد؛ فإلى الأمام ... إلى الأمام.
وكور قبضة يمناه ولوح بها، وحث خطاه وقد انبعث من عينيه الجاحظتين نور خاطف ...
24
وغادر حجرته عصرا بعد أن ارتدى بدلته بعناية وأخذ حظه من التأنق والزينة! ومضى إلى طريق المنيرة إلى بيت الإخشيدي. لبث طوال يومه متفكرا، وكان يقطع تفكيره بالتعجب، ثم يقول لنفسه وكأنه لا يصدق: «سأتزوج اليوم.» وكانت الورقة التي أثبت بها نقط الموضوع الخاص بحفلة جمعية الضريرات لا تزال على مكتبه! فكيف قطعت الأمور هذا الشوط البعيد؟! تفتحت أبواب الوظيفة، وها هو ذاهب لأداء الثمن؛ الزواج؟! ... لا ينبغي أن يدع اسما يهوله، فما هو إلا اسم! ... وكثير مما نحسبه حقائق أو قيما ما هي إلا أسماء. هو عادة اجتماعية، وفي بعض البلاد يتعدد الأزواج كما تتعدد الزوجات في بلاد أخرى، وقد يباح الزنا في بلاد، وكانت الإباحية قانونا في بعض المجتمعات؛ فليس هناك قانون مطلق للزواج، وليتحل بما أثر عنه من شجاعة وجسارة. هكذا مضى يحادث نفسه، ثم ذكر في طريقه والديه! ... وانقبض صدره على رغمه، وفرق، وتفصد جبينه عرقا. تمثلت له والدته التي تؤمن بأنه لا يخطئ أبدا، وتمثل له والده الريفي، بطيبته وتقواه وغيرته. إنه يتزوج دون علمهما، ولا يدري متى يعلمان، ولكن هل يحتمل أن يعلما بالحقيقة، لا فلسفته ولا أعصابه بمستطيعة أن تجعله يواجه مثل هذا التحدي! ... إن ذكرى والديه شبح مخيف، فليطرده عن مخيلته. ما أحوجه الآن إلى صفاء الذهن وحضور البديهة ورباطة الجأش! أليست عروسه في انتظاره؟! ... يا لها من حقيقة بالخيال أشبه. ترى من عروسه؟ ... ما صورتها؟ ما أسرتها؟ ما أخلاقها وأحوالها؟! قلبه يحدثه بأنها جميلة، وإلا ما جذبت شخصا كقاسم بك، ولكن لا شك كذلك في أنها فقيرة كما يدل اختياره زوجا لها، والفتاة الغنية لا يعوقها عن الزواج عائق، والشرف قيد لا يغل إلا أعناق الفقراء. ترى ماذا تخبئ له هذه الحياة الزوجية؟ كيف يكون شعوره نحو زوجه غدا؟ وكيف يكون شعورها نحوه؟ وما هي حقيقة الرابطة التي ستربطهما معا؟! وكيف يستقبل البك إذا جاء لزيارته! يا لها من حياة، ويا لها من تجربة. غدا تمتحن فلسفته وقوته. إنه يسير نحو هدفه لا يلوي على شيء، ولا يستطيع عقله الآن أن يجد حلا لجميع المشكلات التي ينطوي عليها الغد، ولكنه إذا واجهها فسيعرف كيف يقهرها، وينتصر عليها كما انتصر على كل عقبة في ماضيه، وداخله شعور بالثقة والزهو والخيلاء، فسار بقدمين ثابتتين، وانتهى إلى بيت الإخشيدي، وفتح له الرجل بنفسه، ثم مضى به إلى حجرة نومه وسأله: أأنت مستعد؟
Página desconocida