ونشط في الأيام الباقية من يناير للبحث عن حجرة رخيصة، ولم يظفر بحاجته بسهولة؛ لأن الحي من الأحياء المأهولة، ولأنه مكتظ بالطلبة، وهؤلاء يتقاتلون على الحجرات المنعزلة فوق الأسطح، ثم عثر في النهاية على حجرة سطحية بعمارة جديدة بشارع جركس - على مقربة من ميدان الجيزة - ولكن جدتها كانت طامة عليه؛ لأن صاحب العمارة أبى أن يكري الحجرة بأقل من أربعين قرشا، فاضطر محجوب إلى القبول مغلوبا على أمره، وأخبر أصحابه بأنه سينتقل إلى حجرة بعمارة جديدة، وقال لهم - وهو يغمز بعينه - إن أسبابا خاصة دعت إلى ذلك. قال ذلك وهو يعلم أنه سيعجزه غدا وصال جامعة الأعقاب، ولكنه آثر كذبا من هذا النوع على إذلال كبريائه، ووجد نفسه في حاجة إلى نفقات النقل وابتياع مصباح غازي، فنظر في أثاثه البسيط فلم يجد شيئا يمكن الاستغناء عنه، سوى صوان الثياب الصغير - أشبه بصندوق منه بصوان - باعه سرا بمساعدة البواب بثلاثين قرشا. وفي أول يوم من فبراير حزم متاعه وودع صحابه، وانتقل إلى الحجرة الجديدة، وأدى الإيجار مقدما فلم يبق معه من نفقته الجديدة إلا ستون قرشا هي جماع ما يملك طوال الشهر، قرشان لليوم الواحد، للغذاء والغاز، وهناك الغسل ضرورة لا محيص عنها - وليترك الكنس جانبا - ثم الحلاقة، أما فنجان القهوة فمن الكماليات المحرمة. وليس فيما بقي من أثاثه الحقير ما يمكن الاستغناء عنه أو ما يطمع أن يأتيه بثمن يذكر؛ فالفراش وهو أهم ما لديه لا يكاد يساوي نصف جنيه، ونفعه مع ذلك لا يقدر؛ فعليه يرقد، وتحت حشيته يحفظ ثيابه. وهز رأسه ذا الشعر المفلفل وغمغم: «ستكر الأشهر الثلاثة كما يكر غيرها من الأيام، ولن أموت جوعا على أي حال.» وبات ليلته الأولى بالمسكن الجديد.
وفي صباح اليوم الثاني غادر الحجرة بعد أن أغلقها، وأراد البواب أن ينظفها له، ولكنه رده مشكورا. وكان في الحقيقة يهرب؛ لأنه لا يستطيع أن يتنازل له عن مليم واحد. وبلغ ميدان الجيزة، وجال ببصره حتى استقر على دكان فول مدمس، فتوجه إليه واجما، ووجد جماعات العمال يقتعدون الإفريز أمام الدكان يلتهمون طعامهم ويتحادثون ويتضاحكون، فقال لنفسه: «أصبحت واحدا من هؤلاء العمال الذين يرثي لهم علي طه ...» وطلب نصف رغيف وانتحى جانبا يأكله بشهية، فانتهى ولما يشبع، وكان بطبعه عظيم الشهية، يتناول في إفطاره صفحة فول ورغيفا غير البصل والمخلل، ولكنه لا يستطيع أن يأكل أكثر من وجبتين صغيرتين في اليوم. وهز منكبه ومضى في سبيل الجامعة وهو يقول: «لشد ما أنا في حاجة إلى صفاء الذهن؛ فإما النجاح وإما الانتحار!» ومضى وقت الدراسة كالعادة، وقابل أصحابه جميعا، وأنفقوا في حديقة الأورمان وقتا غير يسير يتناقشون في المحاضرات، وعندما أزف وقت الغداء انفصل عنهم فذهبوا إلى المقصف، وعاد هو إلى ميدان الجيزة. بالأمس فقط تناول غداءه بالمقصف مع علي ومأمون وأحمد بدير، وكان مكونا من صفحة سبانخ باللحم الضاني وأرز وبرتقالة، أما اليوم ...! وأقبل على دكان الفول وقد استقبله صاحبها بابتسامة وهو يقول: «أهلا وسهلا.» فآذته تحيته ونالت من كبريائه، وكان إلى جانب دكان الفول دكان كباب، فحمل الهواء دخان الشواء إلى أنفه، فسال لعابه وتوجعت معدته، ثم أخذ الرغيف، ومضى فارا من الرائحة الشهية، وعاد إلى حجرته وفتح بابها، فشم رائحة هواء فاسد؛ لأنه كان قد ترك النافذة مغلقة، ورأى الغبار يعلو المكتب والكتب، والبطانية مكومة على الفراش، فأدرك أن عليه منذ الساعة أن يكون طالبا وخادما، وربما «غسالة» أيضا، وشرع في القيام بوظائفه الجديدة ممتعضا ثائرا. الحياة الجديدة شاقة متعبة، سيواصل دراسته بلا ريب، وسيواصلها بعزم وعناد، ولكن لن يسكت له جوع أو يطمئن له جانب، وسيسهر الليالي طاويا، يجلس إلى مكتبه الساعات الطوال مثلج الأطراف مقوس الظهر، وربما فضحه مظهره وعرضه للهزء والسخرية، وربما نال منه الجوع فأسقمه.
ولكن ليس له إلا أن يكافح بصلابة وعناد، وأن يتحدى الناس والحظ والدنيا جميعا، وأن يغضب وأن يحقد وأن يجن جنونا. استمر في عمله حتى انتصف الليل، ثم ترك مكتبه إلى فراشه، ورقد عليه منهوك القوى، وهو يغمغم: انتهت أولى ليالي محنتي! ...
12
وفي صباح اليوم الثاني استيقظ متعبا موجع الرأس، ومن عجب أنه لم يكن جائعا، ولكنه ذكر آلام جوع الليلة الماضية؛ فإن رغيف الفول لم يصمد بعد العشي، وتركه لجوع قاس أليم. وقد خطر له أن يضرب عن طعام الإفطار على أن يتناول في غدائه رغيفا ونصفا، فيضمن راحة الليل ويذاكر رخي البال، أما ساعات النصف الأول من النهار، فالدروس كفيلة بأن تشغله عن معدته في أثنائها. فكرة طيبة جديرة حقا برأس فقير معدم، والعادة كفيلة بأن تجعل الألم غير أليم، بيد أنه ما كاد يكرع كرعة روية ويستروح نسائم الصباح في الطريق حتى تمطى وحش معدته، فانهارت عزيمته، وهرول إلى دكان الفول لا يلوي على شيء. وراح - وهو يتناول طعامه - يذكر ما يقال عن سير متصوفي الهنود، وعجب كيف يقاومون الجوع تلك المقاومة الخارقة، وكيف يصبرون على الألم ذلك الصبر المر، ويجدون في هذا وذاك لذة عالية! ... رباه ... لشد ما احتارت هذه الكلمة البديعة «اللذة» بين أمزجة البشر، أما هو فلذاته بينة، وحرمانه بين كذلك، حتى جامعة الأعقاب أمست عزيزة المنال! وذهب إلى الكلية، وحضر الدرس الأول، ثم مضى إلى الحديقة ينتظر الدرس الثاني الذي يبدأ بعد ساعتين، وجلس على أريكة وسط جمع من الطلبة يستمتعون بأشعة الشمس اللطيفة التي يجود بها فبراير جود مقتر شحيح، وكانوا يتحادثون بحمية الشباب، وينتقلون من موضوع إلى موضوع كيفما شاءوا؛ تلك الآنسة البدينة التي تضطرب نبراتها ويتهدج صوتها إذا نهضت لقراءة نص من النصوص، ومستر أرفنج مدرس اللاتيني ذو الشعر الذهبي ... ألم يكن من الإنصاف لو خلق أنثى، وخلقت آنسة درية ذكرا؟! السينما وتهديدها للثقافة الحقة والفن الرفيع، والويسكي والحشيش وأيهما أمتع، هل يعود دستور سنة 1923؟ من صاحب الفضل الأكبر في إنشاء الجامعة؟ الملك أم المغفور له سعد زغلول؟ جماعة مصر الفتاة هل هم مخلصون أم دسيسة؟ من أحق بالفضل في نهضة المسرح؛ يوسف وهبي أم فاطمة رشدي؟ أيهما خير للوطن أن يتم الأمير فاروق دراسته في إيطاليا كما يريد والده، أم في إنجلترا كما يريد الإنجليز؟ امتلأ الجو آراء وملاحظات، وضج بالضحكات والصياح، واشترك محجوب في الكلام بقدر، وأصغى لما يقال بسخريته كالعادة، ثم نهض يتمشى في أرجاء الحديقة الواسعة، حتى أزف وقت الدرس فانطلق إلى الكلية، وبعد انتهاء الدرس خرج متأبطا ذراع أحمد بدير، وقد قال له الشاب الصحافي: مبارك عليك السكن الجديد.
فقال محجوب مبتسما: بارك الله فيك.
فسأله الشاب وعلى شفتيه ابتسامة ماكرة: من أسرة أم من بنات الهوى؟
فأدرك محجوب في الحال عم يتساءل صاحبه، وارتاح لذلك، وأجابه بابتسامة غامضة قائلا: هذا سر لا يذاع! - هل تقيم معك في الحجرة أم توافيك إليها الليلة بعد الليلة؟
فقال محجوب بزهو: الإقامة مجلبة للشبهات كما تعلم!
فهز الصحافي رأسه وهو يمصمص بفمه وقال: يا حظك! ...
Página desconocida