85

Antiguo y Moderno

القديم والحديث

Géneros

قل في أيام سيف الدولة غزو الروم لمدينة حلب، وكانوا يغزونها السنة بعد الأخرى، ويعيثون في أرباضها وقراها ، ويحرقون ويخربون ويسبون، دع غزوتهم لها سنة 351 أيام استولوا عليها دون قلعتها، ولم يعلم سيف الدولة بالخبر، فخرج إليهم فيمن معه فقاتلهم، فلم يكن له قوة الصبر لقلة من معه فقتل أكثرهم، ولم يبق من أولاد داود بن حمدان أحد، فانهزم سيف الدولة في نفر يسير وظفر الدمستق بداره، وكانت خارج مدينة حلب وتسمى الدارين، فوجد فيها لسيف الدولة ثلاثمائة بدرة (والبدرة كيس فيه ألف، أو عشرة آلاف درهم، أو سبعة آلاف دينار من الدراهم، ويبلغ مجموعه نحو مليوني دينار باصطلاحنا اليوم) وأخذ له ألفا وأربعمائة بغل، ومن خزائن السلاح ما لا يحصى، وأخذ الجميع، وخرب الدار، وملك الحاضر، وحصر المدينة فقاتله أهلها، وهدم الروم في السور ثلمة فقاتلهم أهل حلب عليها، فقتل من الروم كثير ودفعوهم عنها، فلما جنهم الليل عمروها، فلما رأى الروم ذلك تأخروا إلى جبل الجوشن، ثم إن رجال الشرطة بحلب قصدوا منازل الناس، وخانات التجار لينهبوها فلحق الناس أموالهم؛ ليمنعوها فخلا السور منهم، فلما رأى الروم السور خاليا من الناس قصدوه وقربوا منه فلم يمنعهم أحد، فدخلوا البلد بالسيف يقتلون من وجدوا، ولم يرفعوا الفتك حتى تعبوا وضجروا، وكان في حلب ألف وأربعمائة من الأسارى، فتخلصوا وأخذوا السلاح وقتلوا الناس، وسبي من البلد بضعة عشر ألف صبي وصبية، وغنموا ما لا يوصف كثرة، فلما لم يبق من الروم ما يحملون عليه الغنيمة أمر الدمستق بإحراق الباقي وإحراق المساجد، قال ابن الأثير: وكان عدد عسكره مائتي ألف رجل، منهم ثلاثون ألفا بالجواشن (الدروع) وثلاثون ألفا للهدم، وإصلاح الطرق من الثلج، وأربعة آلاف بغل يحمل الحديد، وكانت هذه الموقعة بسفح (بالقوسا) فأحرقوا جامعها.

بيد أن هذه الواقعة وأمثالها لم تثن من همة سيف الدولة، فظل على غزو الروم؛ ليكف عاديتهم عن هذه الديار، وكانت له طرق غريبة في الرحمة، من ذلك أنه سار مرة بالبطارقة الذين في أسره إلى الفداء، وكان في أسر الروم ابن عمه أبو فراس، وجماعة من أكابر الحلبيين والحمصيين فأخذ بالفداء، ولما لم يبق معه من أسرى الروم أحد اشترى الباقين كل نفس باثنين وسبعين دينارا، حتى نفد ما معه من المال، فاشترى الباقين ورهن عليهم بدنته (درعه) الجوهر المعدومة المثل، ثم لما لم يبق أحد من أسرى المسلمين كاتب نقفور ملك الروم على الصلح، قال ابن الوردي: وهذه من محاسن سيف الدولة.

ولقد امتازت دولة سيف الدولة بمزيتين: الأولى سياسية إسلامية، والثانية علمية أدبية، فمزيتها السياسية أنه كثيرا ما أغار على الروم، وجعل ديدنه التخريب في بلادهم؛ ليردهم عن قصد بلاده؛ لأنهم كانوا يطمعون فيها منذ القديم، ويذكرون من تاريخها أنهم حكموها طويلا، فكان بعمله سدا حاجزا دون انبعاثهم إلى هذه البلاد، فخدم بذلك الإسلام والعرب، والمزية الثانية لدولته جعلها كحضرة بني العباس على ضيق رقعتها، وذلك في الإفضال على العلم والأدب، فكان يقصده أهل هذا الشأن، فينزلهم في بلاده على الرحب والسعة ويبرهم بصلاته، قال في دائرة المعارف الإسلامية: «إن الفضل الذي أحرزه سيف الدولة بن حمدان بنشر العلوم والآداب العربية هو عنوان مجد لا يقل عن أعماله الحربية.»

ومما يؤخذ عليه تغاليه في الإفضال على الشعراء والأدباء، على أن منهم كأبي الطيب المتنبي مثلا من فارقه بعد أن منعه الإقطاعات والإنعامات الكثيرة؛ ليستجدي أكف كافور في مصر، فقد أعطى سيف الدولة شاعره المتنبي ضيعة بالمعرة اسمها «صف» إقطاعا له، وأقطع قرية «عين جارة» وهي من الضياع الكبرى على ابن أحمد بن البازيار نديمه عدا ما كان يناله من صلاته، وذكروا أن الناشئ الأحصى دخل على سيف الدولة فأنشده قصيدة له فيه، فاعتذر سيف الدولة بضيق اليد يومئذ، وقال له: أعذر فما يتأخر حمل المال فإذا بلغك ذلك، فإننا نضاعف جائزتك ونحسن إليك، فخرج من عنده فوجد على باب سيف الدولة كلابا تذبح لها السخال وتطعم لحومها، فعاد إلى سيف الدولة فأنشده هذه الأبيات:

رأيت بباب داركم كلابا

تغذيها وتطعمها السخالا

فما في الأرض أدبر من أديب

يكون الكلب أحسن منه حالا

ثم اتفق أن حملت إلى سيف الدولة أموال من بعض الجهات على بغال، فضاع منها بغل بما عليه، وهو عشرة آلاف دينار، وجاء هذا البغل حتى وقف على باب الناشئ الشاعر بالأحص، فأخذ ما عليه من المال وأطلقه، ثم جاء حلب ودخل على سيف الدولة وأنشده قصيدة يقول له فيها:

ومن ظن أن الرزق يأتي بحيلة

Página desconocida