قالوا: وقبيح بالخطيب أن يقوم بخطبة العيد أو يوم السماطين، أو على المنبر، أو في سدة دار الخلافة، أو في يوم جمع وحفل، إما في إصلاح بين العشائر واحتمال دماء القبائل، واستلال تلك الضغائن والسخائم، فيقول كما قال بعض من خطب على منبر ضخم الشأن رفيع المكان: ثم إن الله - عز وجل - بعد أن أنشأ الخلق وسواهم ومكن لهم لاشاهم فتلاشوا. ولولا أن المتكلم افتقر إلى أن يلفظ بالتلاشي، لكان ينبغي أن يؤخذ فوق يده. وخطب آخر في وسط دار الخلافة فقال في خطبته: وأخرجه الله من باب الليسية، فأدخله في باب الأيسية إلخ، قال: وكما لا ينبغي أن يكون اللفظ عاميا ساقطا سوقيا، فكذلك لا ينبغي أن يكون غريبا وحشيا إلا أن يكون المتكلم بدويا أعرابيا، فإن الوحشي من الكلام يفهمه الوحشي من الناس، كما يفهم السوقي رطانة السوقي، وكلام الناس في طبقات، كما أن الناس أنفسهم في طبقات، فمن الكلام والجزل والسخيف، والمليح والحسن ، والقبيح والسميج، والخفيف والثقيل، وكله عربي، وبكل قد تكلموا، وبكل قد تمادحوا وتعايبوا.
فإن زعم زاعم أنه لم يكن في كلامهم تفاضل، ولا بينهم في ذلك تفاوت، فلم ذكروا العي والبكي، والحصر والمفحم، والخطل والمسهب، والمتشدق والمتفيهق، والمهماز والثرثار، والمكثار والهماز؟! ولم ذكروا الهجر والهذر، والهذيان والتخليط، وقالوا: رجل تلقاعة (كثير الكلام) وتلهاعة (متشدق) وفلان يتلهيع في خطبته، وقالوا: فلان يخطئ في جوابه، ويحيل في كلامه، ويناقض في خبره، ولو أن هذه الأمور قد كانت تكون في بعضهم دون بعض لما سمي في ذلك البعض والبعض الآخر بهذه الأسماء، قال أبو عثمان: وأنا أقول: إنه ليس في الأرض كلام هو أمتع، ولا أنفع، ولا آنق، ولا ألذ في الأسماع، ولا أشد اتصالا بالعقول السليمة، ولا أفتق للسان، ولا أجود تقويما للبيان من طول استماع حديث الأعراب الفصحاء العقلاء العلماء البلغاء.
يروى أن مطرف بن عبد الله كان يقول: لا تطعم طعامك من لا يشتهيه. ويقول لا تقبل بحديثك على من لا يقبل عليك بوجهه. وقال عبد الله بن مسعود: حدث الناس ما حدجوك بأسماعهم ولحظوك بأبصارهم، فإذا رأيت منهم فترة فأمسك. قال: وجعل ابن السماك يوما يتكلم وجارية له حيث تسمع كلامه، فلما انصرف إليها قال لها: كيف سمعت كلامي؟ قالت: ما أحسنه لولا أنك تكثر ترداده، فقال: أردده حتى يفهمه من لم يفهمه. قالت: إلى أن يفهمه من لم يفهمه يكون قد مله من فهمه ، قال عباد بن عوام عن شعبة عن قتادة قال: مكتوب في التوراة لا يعاد الحديث مرتين. وسفيان بن عيينة عن الزهري قال: إعادة الحديث أشد من نقل الصخر، وقال بعض الحكماء: من لم ينشط لحديثك، فارفع عنه مؤنة الاستماع منك. وجملة القول في الترداد أنه ليس فيه حد يحصره من العوام والخواص.
قال ثمامة بن أشرس: كان جعفر بن يحيى أنطق الناس، قد جمع الهدو والتمهل، والجزالة والحلاوة، وإفهاما يغنيه عن الإعادة، ولو كان في الأرض ناطق يستغني بمنطقه عن الإسارة لاستغنى جعفر عن الإشارة، كما استغنى عن الإعادة، وقال مرة: ما رأيت أحدا كان لا يتجسس، ولا يتوقف، ولا يتلجلج، ولا يتنحنح، ولا يرتقب لفظا قد استدعاه من بعد، ولا يلتمس التخلص إلى معنى قد تعصى عليه طلبه أشد اقتدارا، ولا أقل تكلفا من جعفر بن يحيى. وقال ثمامة: قلت لجعفر بن يحيى: ما البيان؟ قال: أن يكون الاسم يحيط بمعناك ويجلي عن مغزاك، وتخرجه من الشركة، ولا تستعين عليه بالفكرة، والذي لا بد منه أن يكون سليما من التكلف، بعيدا من الصنعة، بريئا من التعقيد غنيا عن التأويل.
قال أبو عثمان: أعيب عندهم من دقة الصوت وضعف مخرجه، وضعف قوته أن يعترض الخطيب البهر، والارتعاش، والرعدة، والعرق. قال أبو الحسن: قال سفيان بن عيينة: تكلم صعصمة عند معاوية فعرق، فقال معاوية: بهرك القول، فقال صعصمة: إن الجياد نضاحة بالماء. والفرس إذا كان سريع العرق وكان هشا (كثير العرق) كان ذلك عيبا، وكذلك هو في الكثرة، وإذا أبطأ ذلك وكان قليلا قيل قد كبا وهو فرس كاب وذلك عيب أيضا. (8) لطالب الإجادة في خطبته
رأيت بما مضى بعض العيوب التي يجب على الخطيب أن يربأ بنفسه عنها مما ذكره أبو عثمان الجاحظ، وهاك الآن قطعة أخرى له قال: قال بعض الربانيين من الأدباء، وأهل المعرفة من البلغاء ممن يكره التشادق والتعمق، ويبغض الإغراق في القول، والتكلف والاجتلاب ويعرف أكثر أدواء الكلام ودوائه، وما يعتري المتكلم من الفتنة بحسن ما يقول، وما يعرض للسامع من الافتتان بما يسمع، والذي يورث الاقتدار من التهكم والتسلط، والذي يمكن الحاذق المطبوع من التمويه للمعاني والخلابة وحسن المنطق. قال في بعض مواعظه: أنذركم حسن الألفاظ وحلاوة مخارج الكلام، فإن المعنى إذا اكتسى لفظا حسنا، وأعاره البليغ مخرجا سهلا، ومنحه المتكلم قولا متعشقا، صار في قلبك أحلى ولصدرك أملا، والمعاني إذا كسيت الألفاظ الكريمة، وألبست الأوصاف الرفيعة، تحولت في العيون عن مقادير صورها، وأربت على حقائق أقدارها بقدر ما زينت، وعلى حسب ما زخرفت، فقد صارت الألفاظ في معنى المعارض، وصارت المعاني في معنى الجواري، والقلب ضعيف، وسلطان الهوى قوي، ومدخل خدع الشيطان خفي، فاذكر هذا الباب ولا تنسه، وتأمله ولا تفرط فيه، فإن عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - لم يقل للأحنف بعد أن احتبسه حولا مجرما (تاما)؛ ليستكثر منه وليبالغ في تصفح حاله، والتنفير عن شأنه إن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قد كان خوفنا كل منافق عليم، وقد خفت أن تكون منهم، إلا لما كان راعه من حسن منطقه، ومال إليه لما رأى من رفقه وقلة تكلفه. قال الجاحظ: فالقصد في ذلك أن تجتنب السوقي والوحشي، ولا تجعل همك في تهذيب الألفاظ، وشغلك في التخلص إلى غرائب المعاني، وفي الاختصار بلاغ، وفي التوسط مجانبة للوعورة، وخروج من سبيل من لا يحاسب نفسه.
وقد رد الجاحظ على من زعم أن البلاغة أن يكون السامع يفهم معنى القائل، وجعل الفصاحة واللكنة والخطأ والصواب والإغلاق والإبانة والملحون والمعرب، كله سواء، وكله بيانا قال: وكيف يكون ذلك كله بيانا، ولولا طول مخالطة السامع للعجم، وسماعه للفاسد من الكلام لما عرفه، ونحن لم نفهم عنه إلا للنقص الذي فينا، وأهل هذه اللغة وأرباب هذا البيان لا يستدلون على معاني هؤلاء بأكمالهم (؟) كما لا يعرفون ركاكة الرومي والصقلبي، وإن كان هذا الاسم إنما يستحقونه بأنا نفهم عنهم كثيرا من حوائجهم، فنحن قد نفهم بحمحمة الفرس كثيرا من حاجاته، ونفهم بمواء السنور كثيرا من إرادته، وكذلك الكلب والحمار والصبي الرضيع.
قال: وكانوا يمدحون شدة العارضة، وقوة اللسن، وظهور الحجة، وثبات الجهاد، وكثرة الريق، والعلو على الخصم، ويهجون بخلاف ذلك، ثم قال: وهم وإن كانوا يحبون البيان، والطلاقة، والتحبير، والبلاغة، والتخلص، والرشاقة، فإنهم كانوا يكرهون السلاطة والهذر، والتكلف والإسهاب، والإكثار لما في ذلك من التزيد والمباهاة واتباع الهوى، والمنافسة في العلو والقدر، وكانوا يكرهون الفضول في البلاغة؛ لأن ذلك يدعو إلى السلاطة، والسلاطة تدعو إلى البذاء.
Página desconocida