النبوغ إذا ظاهرة اجتماعية واقعة، نشهدها من حين إلى حين، والأفراد النابغون مهما تعترضهم العقاب، ومهما يكتنفهم من الظروف، فلهم من قيادة الفكر، والسيطرة عليه حظ يلائم نصيبهم من النبوغ.
فإذا قلنا: إن قيادة الفكر في القرن السابع عشر لم تكن إلى الفلسفة وحدها، فنحن مضطرون إلى أن نقول: إن قيادة الفكر الفلسفي في هذا العصر، كانت إلى ديكارت. وإذا قلنا: إن قيادة الفكر في هذا العصر لم تكن للسياسة وحدها، فنحن مضطرون إلى أن نقول: إن قيادة الفكر السياسي في هذا العصر، كانت لريشيليو، وكرمويل، ولويس الرابع عشر.
وقل مثل ذلك في الأدب والفن والعلم والدين. وكل ما بين هذا العصر والعصور السابقة من الفروق، هو أن قيادة الفكر قد تنوعت في العصر الحديث، فأصبحت مضطرا إلى أن تقسم البحث عنها إلى فصول، وتلتمسها عند كثير من الناس في كثير من الأمم، بعد أن كنت تستطيع أن تجمع البحث عنها في فصل واحد، وتلتمسها عند رجل واحد، في شعب واحد، أو مدينة واحدة.
وبين يدينا كتاب «لإميل فاجيه» حاول فيه أن يدرك قادة الفكر في الأخلاق والسياسة وحدهما، وفي فرنسا وحدها، وفي القرن التاسع عشر وحده، فلم يستطع أن يكتب أقل من ثلاثة أسفار ضخام.
وما أشد ما كنت أحب أن أمضي في هذا الحديث؛ فأدرس النابهين من قادة الفكر المحدثين، كما درست النابهين من قادة الفكر القدماء؛ ولكنك ترى معي أن السفر قد طال، وانتهى إلى غاية يحسن الانتهاء إليها، والوقوف عندها، وأن درس المحدثين من قادة الفكر - على اختلاف ما تفرقوا فيه من فروع حياة العقول والشعور - يحتاج - لا أقول - إلى سفر آخر، بل إلى أسفار.
وأنا أتمنى - وما أكثر ما يتمنى الإنسان - أن يتيح الله لي من سعة الوقت وفراغ البال والنشاط لمثل هذا البحث، ما يمكنني من المضي فيه حتى أتمه، على النحو الذي قدمته في سفر أو أسفار؛ ولكن علم هذا كله عند الله.
فأنا أقدم إليك هذا السفر الذي قدرت عليه، ولست أطمع في أن يبلغ منك مكان الرضا، وإنما أرجو أن يقع منك موقع النفع في غير مشقة ولا إملال.
وأظنك تأذن لي في أن أعتذر إليك مما قد تجد في هذا الكتاب من تفاوت واختلاف؛ فقد كنت أريد أن أفرغ لكتابته حينا، ولكن ظروف الحياة أرادت غير هذا فكتبت بعض فصوله في بريطانيا، وكتبت بعض فصوله الأخرى في باريس، وأتممته في القاهرة، وكنت في بعض هذه الأوقات راضيا مطمئنا، مستريحا إلى الحياة والأحياء، فارغ البال إلا مما يلذ ويسر، وكنت في بعضها الآخر ساخطا أو كالساخط، مكدودا، موزع القوة بين أعمال مختلفة من الدرس والكتابة، وغير الدرس والكتابة. ولعلي لا أجاوز الحق إن قلت: إني قد اختلست هذا الكتاب اختلاسا: اختلست بعضه من أوقات راحتي في فرنسا، واختلست بعضه الآخر من أوقات عنائي في مصر، وأنا أتمنى لهذا الكتاب ألا يختلس قراؤه قراءته، كما اختلس كاتبه كتابته، وأن يتيح الله لقرائه ما لم يتح لي من الراحة والنشاط وفراغ البال.
Página desconocida