وبينما كان السوفسطائيون ينكرون كل شيء ويجحدون كل حقيقة؛ فيهدمون بذلك كل علم وكل فلسفة، كان سقراط يثبت الحقائق، ويعلن أن هذا العلم ليس لغوا ولا عبثا ولا باطلا، ويسلك في إثبات هذا كله سبيلا تقرب كل القرب من السبيل التي سلكها ديكارت بعده بعشرين قرنا، وهي أن يثبت وجود نفسه أولا. فإذا ثبت له وجود نفسه فقد ثبت أن في العالم حقائق ثابتة، وأن الفلسفة السوفسطائية كلها تقوم على شيء من العبث والمغالطة. ذلك أنك مهما تنكر فلن تستطيع أن تنكر نفسه، ولن تستطيع أن تنكر أنك تفكر وتحس وتشعر، وإذن فنفسك وما يصدر عنها من تفكير وحسن شعور، كل ذلك حقائق ثابتة لا تحتمل شكا ولا جدالا؛ ومن هنا قامت الفلسفة السقراطية، أولا: على محاربة السوفسطائية، وإثبات أن هناك حقائق موجودة، وثانيا: على أن هذه الحقائق، إنما تعلم إذا علمت النفس الإنسانية التي هي السبيل الحقيقية إلى إدراكها، وثالثا: على أن العلم بهذه النفس ليس معناه إلا العلم بجوهرها وما يلائمها وما يخالفها. ورابعا: على أن العلم بهذا كله ليس الغرض منه - أو لا ينبغي أن يكون الغرض منه - إلا السعادة التي هي تحصيل ما يلائم النفس وتجنب ما يخالفها، وخامسا: أن الحياة كلها تدور حول محور واحد عنه صدرت وإليه تنتهي، وهو الخير. هذه هي خلاصة الفلسفة التي يمكن أن تضاف إلى سقراط، وهي شيء من اليسير أن يوجز في جمل قصار، ولكن من العسير جدا أن يحصى تأثيره في الحياة الإنسانية والعقل الإنساني.
على أن من التقصير أن نزعم أن فلسفة سقراط قد انتهت عند هذا الحد، بل من الحق أن نقول: إن هناك وجها آخر من وجوه الفلسفة السقراطية يحسن ألا ننساه وألا نهمله، وهو منهجه في البحث وطريقته في التفكير، فلم يكن سقراط كغيره من الفلاسفة الذين تقدموه، ولا كغيره من الفلاسفة الذين جاءوا بعده بزمن قصير، يواجه المباحث الفلسفية مباشرة، ويهجم عليها هجوما عنيفا، حتى يخلص منها إلى نتائجها، وإنما كان يدور حول المباحث الفلسفية في رفق ولطف، وما يزال يدور حولها، حتى يجد مسلكا ضيقا يسلكه فينتهي به إلى النتيجة التي كان يبتغيها. هذه الطريقة الفلسفية هي طريقة الحوار. لم يكن سقراط يضع أمامه مسألة بعينها ثم يأخذ في التحليل والنقد والتعليم حتى ينتهي إلى ما يريد، وإنما كان يتحدث، فيسأل ويناقش جواب المسئول، ثم يسأل، ثم يتعرض للسؤال، ثم يجيب، ثم يورط محاوره في الخطأ، أو يتورط هو في الخطأ، وما يزال في حوار وفي أخذ ورد حتى يستخلص النتيجة كأنها إحدى القضايا الأولية التي لا تحتمل الشك ولا الجدال. ومصدر هذه الطريقة أن سقراط كان يعتقد أن النفس بطبيعتها قادرة على العلم بالأشياء، وعلى استكشاف الحقائق، ولكن ظروف الحياة العملية وأعراضها، وما ورث الناس من عادات وأخلاق، ومن أساطير وسخافات، كل ذلك قد تراكم على هذه النفس الصافية كما يتراكم الصدأ على المرآة. فعمل الفيلسوف ليس هو تعليم الإنسان ما لم يعلم، وإنما هو إعداد الإنسان لكشف الحقائق، أو قل: إن عمل الفيلسوف إنما هو إزالة هذا الصدأ عن المرآة، حتى إذا أتم صقلها وتصفية جوهرها تجلت فيها الحقائق واضحة بينة. ومن هنا كان سقراط يعلن أنه لا يعلم الناس شيئا؛ لأنه لا يعلم شيئا، وإنما يبحث معهم عن الحق فيجده حينا ويخطئه حينا، ومن هنا سميت طريقة سقراط طريقة «التوليد»؛ لأنه كان يعتقد أن النفس مشتملة على الحقائق كما تشتمل الأم على الجنين، وأن عمل الفيلسوف هو استخراج هذه الحقائق من النفس، كما أن عمل القابلة هو استخراج الجنين من الأم. وسواء أكانت هذه التسمية صحيحة أم لم تكن، وسواء أكانت بينها وبين صناعة سقراط صلة أم لم تكن، فليس من شك في أن هذه التسمية تصف طريقة سقراط الفلسفية في البحث وصفا دقيقا.
أعتقد أني قد أجملت لك ما يمكن إجماله من فلسفة سقراط وما هو بمعزل عن النزاع والجدال، فهناك مسائل كثيرة يختلف العلماء في صحة إضافتها إلى سقراط. ولم يبق علي الآن إلا أن أجمل لك مقدار التأثير الذي أحدثه سقراط في العصر الذي جاء بعده مباشرة.
قلت: إن الشباب الأثيني كان شديد الالتفاف حول سقراط، وإن الناس تسامعوا به في جميع البلاد اليونانية، فأقبلوا إليه واشتركوا في حواره، فلما قضي عليه بالموت وأنفذ فيه هذا القضاء، ظهر في أثينا روح رجعي معاد للفلسفة والفلاسفة ميال إلى المحافظة في الرأي، فتفرق تلاميذ سقراط الأصفياء سواء منهم الأثينيون وغير الأثينيين. فمنهم من عاد إلى وطنه وأخذ يعلم الفلسفة فيه، ومنهم من هاجر إلى أرض أخرى وأنشأ فيها مدرسة توارثها خلفاؤه من بعده، ومنهم من ساح في الأرض، ومنهم من استخفى في أثينا وترك الفلسفة إلى حين، حتى إذا هدأت العاصفة استأنف بحثه الفلسفي وأخذ يعلم الناس. كل هؤلاء التلاميذ نشروا في أطراف الأرض اليونانية فلسفة سقراط وفلسفتهم الخاصة. وما هي إلا أعوام بعد موت سقراط. حتى كان تلاميذه قد أنشئوا المدارس المختلفة في أطراف من بلاد اليونان الحقيقية أو في بعض المدن الإيطالية والآسيوية، بل في إفريقية. وأخذت هذه المدارس بحظوظها المختلفة من الحياة، فمنها ما بقي وحفظت آثاره، ومنها ما ذهب به عبث الأيام. ولست أذكر من هذه المدارس إلا ثلاثا كان لها أثرا عظيما جدا في حياة العالم القديم، وكان لبعضها أثر لا يزال قويا في حياة العالم الحديث: الأولى: مدرسة «الكلبيين» التي أنشأها رجل من تلاميذ سقراط يسمى «أنتستين» (Antistène)
في أثينا، والتي اتخذت اسمها من المكان الذي أنشئت فيه، والتي كانت تقوم فلسفتها على قاعدة سقراط التي قدمناها، وهي معرفة النفس بالنفس، ولكنها كانت تطبق هذه القاعدة تطبيقا انتهى بها إلى الزهد وإلى المبالغة فيه؛ لأنها حاولت أن تعرف النفس فعرفتها واستغنت بها عن كل شيء، وحملتها هذه المعرفة على أن تزدري الحياة والأحياء، وما يستمتعون به من لذة، وما يتهالكون عليه من زينة. ولعلك تعرف كثيرا من أخبار «ديوجين» (Diogène)
الذي كان يبحث عن الإنسان فلا يجده؛ لأن الإنسان عنده هو من عرف نفسه؛ وأي الناس يعرف نفسه! والذي يقال إنه كان يأوي إلى دن يتخذه له بيتا، وكان لا يكره أن يستظل السماء ويتخذ الأرض له وطاء ويشرب الماء بيده يستغني بها عن الأقداح، والذي يقال إن الإسكندر زاره وسأله: ماذا يريد؟ فأجابه: أريد ألا تحجب عني الشمس، فقال الإسكندر: لو لم أكن الإسكندر لوددت أن أكون ديوجين. كان تأثير هذه المدرسة شديدا جدا في العصور الأولى؛ فقد انبعث تلاميذها في البلاد اليونانية في أزياء الفقراء والمعوزين لا يلتمسون من الناس شيئا، ولكنهم يدعونهم إلى الزهد والقناعة والانصراف عن اللذات. ولعلك تذكر ما كان لمثل هذه النظريات من الأثر ي حياة العالم القديم، ولا سيما أيام الإمبراطورية الرومانية قبل انتشار الديانة المسيحية.
المدرسة الثانية: مدرسة «قورينا» (Cyrène) ، أو مدرسة «برقة»، وهي مدرسة مناقضة من كل وجه للمدرسة التي قدمت لك ذكرها، أنشأها تلميذ من تلاميذ سقراط يقال له أرستيب (Aristippe) ، وتوارثها خلفاؤه من بعده إلى أيام المقدونيين في مصر، وكانت تقوم أيضا على قاعدة سقراط «اعرف نفسك بنفسك»، ولكنها سلكت سبيلا غير سبيل «الكلبيين»، عرف النفس فوجدت أن الخير إنما هو في أن تزدري النفس الحياة والأحياء ازدراء لا يقوم على الزهد والحرمان، وإنما يقوم على اللذة والاستمتاع بالخير، ما وجدت إلى هذا الاستمتاع سبيلا. فلم الحرمان؟ ولم الزهد ولم النفاق؟ ألست تشعر بأن شيئا يلذك وشيئا يؤذيك! فالخير هو أن تؤثر ما يلذك على ما يؤذيك، ولكن لا على أن تجعل نفسك عبدا للذة، بل على أن تجعل اللذة أمة لنفسك، تأخذ منها ما استطعت، دون أن تأسف عليها إذا حيل بينك وبينها، ودون أن تضحي في سبيلها بإنسانيتك في حاجة إلى أن أذكرك بما كان لهذه المدرسة من التأثير في الحياة القديمة؛ فأنت تعلم أن مذهبين خلقيين كانا يتنازعان حياة القدماء: أحدهما مذهب الزهد الذي أعلنه الكلبيون بعد سقراط، وبالغ فيه الرواقيون بعد أرسطاطاليس. والآخر مذهب اللذة الذي أعلنه «أرستيب» بعد سقراط، وبالغ فيه «أبيقور» (Epicure)
بعد أرسطاطاليس.
أما المدرسة الثالثة، فهي أبقى المدارس التي نشأت عن فلسفة سقراط وأبعدها أثرا في الحياة الإنسانية، وأعظمها حظا في الخلود: أثرت في العالم القديم، وأثرت في القرون الوسطى، وأثرت في العالم الحديث، وما زال لها أنصارها وتلاميذها إلى اليوم وإلى ما بعد اليوم؛ ولكني لا أحدثك عنها في هذا الفصل؛ فهي تحتاج إلى فصل خاص؛ لأنها نشأت لنا رجلين من قادة الفكر الإنساني العام: أحدهما: «أفلاطون»، والآخر: «أرسطاطاليس».
أفلاطون
Página desconocida