بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.
Página 24
كتاب القضاء وهو بالمد والقصر لمعان، أنهاها بعضهم (1) إلى عشرة، ولا يبعد ارجاع الكل إلى معنى واحد، وهو: إتمام الشئ والفراغ عنه - كما اعترف به الأزهري على ما حكي عنه (2) - أو فصل الأمر قولا أو فعلا، كما في كشف اللثام (3).
وشرعا - كما في المسالك (4) والكشف (5) وغيرهما (6) -: ولاية الحكم شرعا لمن له أهلية الفتوى بجزئيات القوانين على أشخاص معينين من البرية بإثبات الحقوق، واستيفائها للمستحق.
والظاهر أن ادراج الولاية مبني على جعل القضاء من المصادر
Página 25
المستعملة في شأنية المبدأ ومنصبه - كما في لفظ الحكومة والإمارة والوزارة ونحوها - لا في نفس المبدأ، فالمنصب في هذه المبادئ نظير الملكة في الكتابة ونحوها. وهذا الاستعمال وإن كان شائعا في كثير من المصادر، وملحوظا في لفظ القاضي، إلا أنه قليل في خصوص لفظ القضاء، بل يعبر عنه عرفا بالقضاوة، وإن لم يسمع هذا الوزن في كلام أهل اللغة.
وعلي أي حال، فظاهر التعريف خروج مثل الحكم بثبوت الهلال، فإنه وإن كان منصبا للقاضي إلا أن صدق المبدأ ليس باعتباره، فهو نظير ولايته على أشخاص خاصة وأعيان خاصة.
وقد عرفه في الدروس بما يشمل الكل، أعني ولاية شرعية على الحكم، وعلى المصالح العامة من قبل الإمام عليه السلام (1)، والأول أوجه.
وعلى أي حال، فالظاهر تعريفهم للصحيح من القضاء.
والظاهر بل المقطوع عدم ثبوت الحقيقة الشرعية لهذا اللفظ وما يشتق منه، بل ولا الحقيقة المتشرعية إلا في خصوص لفظ " القاضي "، فلا يبعد أن يراد بقولهم: " شرعا " فن علم الشريعة، يعني اصطلاح الفقهاء، والأمر في ذلك كله سهل.
وهذا الباب (2) (فيه مقاصد):
Página 26
المقصد الأول في صفات القاضي وآدابه التي يستعملها عند التصدي للقضاء وهذا فيه مطلبان
Página 27
[المطلب] الأول (يشترط فيه: البلوغ والعقل والايمان والعدالة وطهارة المولد) بالاجماع المحقق والمنقول (1) في الجميع.
(و) كذا يشترط فيه (العلم) بما يتصدى له من القضاء، علما ناشئا عن الأدلة المتعارفة ، أعني: الكتاب والسنة والعقل، فلا يكفي العلم من أي سبب كان وإن كان حجة على نفسه، إلا أن اطلاق لفظ " العلم " و " العالم " في أدلة اشتراط هذا الشرط من الاجماع والنص، مثل قوله عليه السلام: " رجل قضى بالحق وهو يعلم " (2) ومثل أدلة نصب الفقهاء (3)، وغير ذلك، منصرف إلى غيره، بل هذا شئ معلوم من حال الشارع ضرورة.
Página 29
ويدخل في العلم: الظن الاجتهادي الحاصل من الظنون المعتبرة، لانتهائه إلى العلم.
ولا فرق في المجتهد بين المطلق والمتجزي على الأقوى، وفاقا للمصنف (1) والشهيدين (2) وغيرهم (3) قدس الله أسرارهم لاطلاق بعض أدلة النصب في حال الغيبة كما سيجئ، ولأن الظاهر بل المقطوع أن المنصوبين في زمن النبي والأمير صلوات الله عليهما وآلهما لم يكن لبعضهم ملكة استنباط جميع المسائل، فتأمل.
ولمرفوعة أبي خديجة: " ولكن انظروا إلى رجل يعلم شيئا من قضايانا فاجعلوه قاضيا " (4)، فإن ظاهرها كفاية العلم بالقضية المحتاج إليها في القضاء.
ولا يعارضها قوله عليه السلام - في مقبولة ابن حنظلة -: " انظروا إلى رجل منكم، قد روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا، فارضوا به حكما " (5)، بناء على إفادة الجمع المضاف للعموم، لا لما توهمه بعض (6) من عدم التنافي بين نصب المطلق ونصب المتجزي، لأن المقبولة واردة في مقام بيان المرجع وتعريفه، فالقيود فيها احترازية، وتفيد حصر
Página 30
المرجع في المتصف بتلك الصفات، بل لأن حمل الجمع على العموم غير ممكن مع إبقاء قوله: " عرف " على ظاهره من المعرفة الفعلية، للاجماع، بل الضرورة على عدم اعتبار العلم الفعلي بجميع الأحكام، فحمل الفعل الماضي على إرادة الملكة ليس بأولى من حمل الجمع المضاف على الجنس، بل هو أولى بمراتب، ومع التساوي فيسقط الاستدلال، مع احتمال حمل القيد على ما هو الغالب في ذلك الزمان من عدم تجزي ملكة الاستنباط، لكن هذا لا يقدح في اطلاق رواية أبي خديجة (1)، كما لا يخفى.
وربما يرد الاستدلال بالمرفوعة بأن غايتها إفادة الظن، واعتماد المتجزي عليه يوجب الدور، لأن الكلام في حجية ظنه.
وفيه: إن هذا الاستدلال إنما هو من المطلق على حجية ظن المتجزي، ليفتي مقلده بالرجوع إليه، وأما المتجزي فلا بد له من أن ينتهي بظنه إلى العلم بحجيته، ولا يكفيه التمسك بالمرفوعة إلا إذا قطع بحجيته على نفسه من حيث السند والدلالة وعدم المعارض، بل الحال كذلك في المطلق أيضا.
وأما الكلام في سند المرفوعة، فحقيق بالاعراض عنه بعد اطلاق " المشهورة " عليها، وركون المشهور إليها ولو في غير المقام، بل في المقام حيث إن الظاهر أن المشهور صحة التجزي، بل القول بعدمها لم نعرفه من الإمامية قبل صاحب المعالم (2)، وإن لم يستلزم صحته مضي حكمه على الغير، إلا أن الظاهر ندرة القائل بالفرق.
Página 31
وعلى أي حال، فما نسبه بعض (1) إلى صاحب المسالك، من دعواه الاجماع في المقام على اعتبار كون القاضي مجتهدا مطلقا، محل نظر يظهر لمن لاحظ عبارة المسالك، كما أن ما فهمه صاحب المسالك من قول المحقق في الشرائع: ولا بد أن يكون عارفا بجميع ما وليه (2)، من اعتبار الاجتهاد المطلق في القاضي (3)، أيضا محل تأمل، ولذا عبر بهذه العبارة المصنف في القواعد (4) والتحرير (5) مع قوله بالتجزي، مع أن المعرفة الفعلية بجميع المسائل غير ميسر غالبا، وإرادة العلم بالقوة، لعله خلاف الظاهر.
وحينئذ، فلا يبعد أن يكون المراد: اعتبار معرفته فعلا بجميع ما وليه من المنصب، ويكون معرفته بحسب ولايته من حيث العموم والخصوص، ولا يقصر علمه عن ذلك، فإنه قد يولى أمرا خاصا كأمر الديون أو المواريث، وقد يولى جميع الأمور في خصوص بلدة أو قرية معينة، أو مطلقا. وحينئذ فلا يبعد استظهار صحة التجزي من هذا الكلام، مع اعتبار المعرفة الفعلية، وعدم كفاية القوة.
ثم هل يمضي حكم المتجزي مطلقا، أو يشترط عدم التمكن من المطلق؟ لا اشكال في الأول لو قلنا بعدم تعين الأعلم، ولو قلنا بتعينه فوجهان:
Página 32
من أن الاطلاق لا يستلزم الأعلمية، لجواز أن يكون المتجزي أقوى ملكة.
ومن صدق الأعلم عليه عرفا، أما لأن الإحاطة مستلزمة عادة لقوة الملكة، وأما لأن الظاهر من التفضيل في العلم: أكثرية المعلومات ، كما في كثير من أسماء التفضيل.
ثم الظاهر أن المقصود من اعتبار العلم: اخراج المقلد وبيان عدم كفاية القضاء عن تقليد، كما هو المشهور، وفي المسالك أنه موضع وفاق (1)، بل عن الروضة الاجماع عليه في حال الحضور والغيبة (2)، وعن الخلاف دعوى الاجماع على أنه لا يجوز أن يقلد غيره ثم يقضي به، دليلنا على ذلك اجماع الفرقة وأخبارهم (3)، بل هو الظاهر من عبارة المبسوط (4) وإن نسب إليه أنه نقل في المسألة أقوالا ثلاثة ولم يجزم بشئ، لكن النسبة في غير محلها، فلاحظ.
وهو ظاهر الغنية (5)، بل صريحه، بل المحكي عن المصنف قدس سره في المختلف (6) - في مسألة احضار القاضي من ينبهه - أنه قال: قد أجمعنا على
Página 33
أنه لا يجوز أن يلي القضاء المقلد (1)، بل هذا اجماع المسلمين قاطبة، فإن العامة أيضا يشترطون في القاضي الاجتهاد، وإنما يجوزون قضاء غيره بشرط أن يوليه ذو الشوكة وهو السلطان المتغلب، وجعلوا ذلك ضرورة، فالقول بجواز القضاء لمن قصر عن الدرجة من غير تولية ذي الشوكة - كما هو الواقع - مخالف لاجماع المسلمين (2)، انتهى.
ويكفيك في تحقق هذا الاجماع دعوى صاحب المفاتيح (3) له - على ما حكي - مع أنه ممن لا يعتني بالاجماعات.
والأصل في المسألة - بعد الأصل وقبل الاجماعات المذكورة -: ما دل على حصر منصب القضاء في النبي والوصي والشقي (4)، خرج المأذون عن الأولين بالنص والاجماع الدالين على الإذن في المجتهد، وقوله عليه السلام - في التوقيع الرفيع -: " وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا:
فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله " (5) عين المرجع في مقام جواب السؤال عنه في الرواة، فيدل على الحصر وعلل الرجوع إليهم بكونهم حجة منه على الناس فيدل على انتفائه عمن لم يكن حجة منه عليهم.
Página 34
ونحوه في التعيين والتعليل مقبولة ابن حنظلة (١)، ومشهورة أبي خديجة (٢).
وبعد ذلك كله فلا أرى وجها لميل بعض متأخري المعاصرين - تبعا لبعض من تقدم عليه (٣) منهم - إلى تقوية الجواز، مستظهرا ذلك من الاطلاقات الدالة على حسن القضاء بالحق ورجحانه، مثل اطلاقات الأمر بالمعروف، وقوله تعالى: <a class="quran" href="http://qadatona.org/عربي/القرآن-الكريم/4/58" target="_blank" title="النساء: 58">﴿وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل﴾</a> (٤)، وقوله: <a class="quran" href="http://qadatona.org/عربي /القرآن-الكريم/5/44" target="_blank" title="المائدة: 44">﴿ومن لم يحكم بما أنزل الله﴾</a> (5)، وقوله عليه السلام " القضاة أربعة: واحد منها في الجنة، وهو الذي قضى بالحق وهو يعلم) (6)، وغير ذلك مما سبق أكثره لبيان حكم آخر، وقيد جميعه بما تقدم من الأدلة، لفساد توهم حكومة هذه عليها، بزعم كونها مفيدة للإذن العام في قضاء كل من يقضي بالحق.
هذا كله، مضافا إلى امكان منع دلالة جميع ما ذكر من الآيات، إذ المراد (بما أنزل الله) و (بالمعروف) و (العدل) و (الحق) في الآيات والروايات إن كان هو الواقعي المشترك بين جميع المكلفين على اختلاف اجتهاداتهم وتقليداتهم، فلا ريب في أن المقلد لا يمكنه الحكم بكون ما يقضي به تقليدا حقا واقعيا، غاية ما ثبت بالأدلة أنه حق بالنسبة إليه ومن يوافقه
Página 35
في التقليد.
ومن هنا استدل في الخلاف (١) والغنية (٢) على عدم الجواز بقوله تعالى:
<a class="quran" href="http://qadatona.org/عربي/القرآن-الكريم/5/44" target="_blank" title="المائدة: 44">﴿ومن لم يحكم بما أنزل الله﴾</a> (3) وقوله عليه السلام: " القضاة أربعة.. منها:
رجل قضى على جهل فهو في النار ". واستدل به كاشف اللثام (4) أيضا.
واستدل عليه في محكي السرائر بأن الحاكم إذا كان مفتقرا إلى مسألة غيره كان جاهلا، وقد بينا قبح الحكم بغير علم (5).
وفي محكي الغنية (6): أن الأصل في اعتبار أهلية الفتوى في صحة القضاء - بعد الاجماع - الأصول والعمومات من الكتاب والسنة المستفيضة بل المتواترة، الناهية عن العمل بالمظنة، ومن ليس له الأهلية لا يحصل له سوى المظنة - غالبا - المنهي عن العمل بها، بل من له الأهلية كذلك، إلا أن حجية ظنه مقطوع بها، مجمع عليها، فهو ظن مخصوص في حكم القطع كسائر الظنون المخصوصة كظاهر الكتاب والسنة المتواترة القطعية والأنساب والسوق واليد وغيرها. ولا كذلك ظن من ليس له الأهلية، إذ لا دليل على
Página 36
حجيته قطعيا ولا ظنيا، ولو سلم الأخير فغايته اثبات الظن بمثله، وهو غير جائز بإطباق العقلاء، انتهى.
وحاصل كلامهم: أن المقلد جاهل بالحكم الواقعي، ولو حصل له ظن به من التقليد، فليس حجة له، نظير حجية ظن المجتهد له، ولهذا يحرم عليه الاخبار عن حكم الله تعالى في المسألة من دون الحكاية، واستند فيه بعضهم إلى أنه قول بما لا يعلم، بأن يقول: يجب كذا، ويحرم كذا (1).
ودعوى أن حرمة ذلك عليه لأجل التدليس اعتراف بما ذكرنا، إذ لو لم يكن الاخبار عن حكم الله حراما على المقلد، لم يكن في اخباره دلالة على الاجتهاد حتى يكون تدليسا.
وبالجملة، فالمعلوم عند المقلد وجوب البناء في أعمال نفسه على فتوى مجتهده، وبه يندفع ما ربما يورد على ما ذكروه في الاستدلال من أن فتوى المقلد أيضا حجة على المقلد كأدلة الفقه بالنسبة إلى المجتهد.
نعم، لو فرضنا المتخاصمين قد قلدا في حكم وافقهما (2) مجتهد ذلك المقلد، كما لو قلد الزوجان في مسألة نكاح البكر البالغة بغير إذن أبيها ذلك المجتهد الحاكم بصحة العقد، ولم نجوز لهما الرجوع، كان لذلك المقلد الذي ترافعا عنده أن يلزمهما على العمل بمذهب مجتهدهما، لأنه هو المعروف بالنسبة إليهما، فيجب أمرهما به.
لكن هذا الأمر والالزام ليس مختصا بمقلد ذلك، بل يجب على كل أحد
Página 37
- مجتهدا أو مقلدا، موافقا في الفتوى والتقليد للمتخاصمين أو مخالفا لهما، أو لا مجتهدا ولا مقلدا - أن يلزمهما على الحكم الذي التزما به من باب الأمر بالمعروف، ومن المعلوم أن هذا ليس قضاء قطعا، وإلا فمجرد وجوب عمل مقلد على فتوى مجتهد لا يوجب الزام غيره عليه مطلقا من باب الأمر بالمعروف أو الحكم بما أنزل الله.
وهذا بخلاف المجتهد، فإنه إذا صح له الاخبار عن حكم الله الواقعي في المسألة بقوله: يجب كذا ويحرم كذا، ويصح ذا، كان له الزام الناس عليه مع التخاصم وبدونه، إلا أن يكونوا أو يصيروا ملتزمين بغيره اجتهادا أو تقليدا.
وبالجملة، فالتمسك بما ذكر من الاطلاقات، مع ما عرفت من حالها في مقابل ما عرفت من الأدلة، ضعيف جدا.
وأضعف منه دعوى أنه وإن لم يجز للمقلد الاستقلال في القضاء، إلا أنه يجوز للمجتهد أن يأذن له فيه، وينصبه للحكومة، نظرا إلى أن للمجتهد من الولاية ما للإمام عليه السلام إلا ما خرج، والظاهر ثبوت هذه الولاية له عليه السلام بأن ينصب عاميا للحكومة، لعدم الدليل على عدم جوازه له، مع ما علم له عليه السلام من الولاية العامة والرئاسة المطلقة، وما دل بظاهره من أدلة نصب الفقهاء على انحصار المرجع في المجتهد، فالمراد به المرجع على الاطلاق في جميع الأمور والوقائع، فلا ينافي جواز نصب الإمام للعامي في خصوص خصومات بلدة، بل يدل على وقوعه أن الظاهر قصور كثير من المنصوبين في زمان النبي والوصي صلوات الله عليهما وآلهما عن درجة الاستنباط.
وفيه، أولا: أن ظاهر نصب أدلة الفقهاء تعليل الأمر بالرجوع إليهم
Página 38
في الخصومات بكونهم حكاما على الاطلاق وحججا كذلك، فيدل على انحصار مباشرة فصل الخصومات في من هو مرجع على الاطلاق في جميع الوقائع والأمور، فما استظهره من تلك الأدلة من كونها في مقام بيان المرجع المطلق، يضره ولا ينفعه.
وثانيا: أن مجرد عدم الدليل على عدم الجواز لا يكون دليلا على الجواز، لأن المقام ليس من قبيل الحكم التكليفي حتى يتمسك فيه بأصالة الإباحة، بل أصالة فساد الحكومة تكفي في الحكم ظاهرا بعدم جواز نصب العامي للحكومة.
وأما ما استظهر منه وقوع ذلك من النبي والوصي صلوات الله عليهما وآلهما من نصب القاصرين عن درجة الاستنباط، ففيه: أن المقصود في هذا المقام عدم جواز نصب المقلد في الواقعة التي يقضي فيها، لا وجوب كون المنصوب مجتهدا اصطلاحيا في تلك الواقعة، فلو سمع رجل عامي في غاية قصور الفهم أحكام المواريث من الإمام عليه السلام، فولاه لقطع خصومات المواريث في بلد جاز، وليت شعري هل كان واحد من المنصوبين في عصر النبي والوصي صلوات الله عليهما وآلهما مقلدا لمجتهد؟
هذا كله، مع أن ما ذكر من ولاية المجتهد في جميع ما للإمام عليه السلام الولاية فيه محل كلام، فلو سلم فلا ريب في أن إطلاق ما تقدم - من الاجماعات في عدم مباشرة القضاء للمقلد - كاف في عدم جواز إذن المجتهد، فالمتجه ما عليه المشهور.
ثم لو فرض أن قضى بإذن من يجوز الإذن في القضاء، فهل ينفذ حكمه بحيث يجب على مجتهد آخر إنفاذه؟ وجهان، الأقوى العدم، إلا أن يحكم المجتهد الآذن بإمضائه وإنفاذه، فيجب إنفاذه على غيره، إلا أن
Página 39
يمنع عموم وجوب انفاذ جميع ما يحكم به المجتهد حتى مثل هذا الامضاء.
ثم الظاهر أنه لا فرق فيما ذكرنا من عدم جواز حكومة المقلد بين حالتي التمكن من المجتهد وعدمه، لاطلاق الأدلة من النصوص والاجماعات، بل في معقد بعضها التصريح بعدم الفرق.
وربما يحكى الجواز عند عدم التمكن عن حاشية مكتوبة في هامش الدروس منسوبة إلى ابن فهد، وهذا شك في شك، فالأقوى المنع.
ولا فرق - أيضا - في إطلاقات النصوص ومعاقد الاجماعات بين كون واقعة القضاء مما يحتاج إلى اجتهاد أو تقليد كالمسائل الخلافية، وكونها مما لم يقع فيه خلاف، كمسألة أن الحكم للمدعي إذا أقام بينة عادلة، بأن فرضنا أن أحد المتخاصمين ادعى على غيره فأقام عليه بينة عادلة واضحة العدالة، فإن كون الحكم للمدعي مما لا يحتاج إلى اجتهاد أو تقليد.
نعم، لو كان ذلك مع عدم التمكن من المجتهد أمكن جوازه، نظرا إلى عموم أدلة الحكم مع البينة وأدلة الأمر بالمعروف، السليم عن التقييد بما دل على أن الحكومة للإمام عليه السلام أو نائبه (1)، بناء على أن المراد به الولاية والتسلط على احضار المدعى عليه، وإلزام المحكوم عليه بالعمل على طبق الحكم، وما دل على وجوب الرجوع إلى رواة الحديث (2) أو الناظرين في الحلال والحرام (3)، بناء على ظهوره في صورة التمكن، ومع ذلك فالحكم لا يخلو عن نظر.
(و) يشترط في القاضي أيضا (الذكورة) فالمرأة لا تولى
Página 40
القضاء، كما في النبوي (1) المطابق للأصل المنجبر بعدم الخلاف في المسألة.
(و) يشترط أيضا (الضبط) فيما يحتاج إليه من مقدمات القضاء.
(و) يشترط (الحرية) أيضا (على رأي) مشهور بين الأصحاب، سيما الشيخ (2) وأتباعه (3)، بل جزم في الروضة (4) بندرة القائل بخلافه.
ويدل [عليه] (5) - بعد وجوب الاقتصار في الحكومة المختصة بالنبي والوصي صلوات الله عليهما على من علم إذنهما له، والإذن للعبد غير متيقن، لأن إطلاق أدلة نصب فقهاء الغيبة وارد مورد الغالب - أن الوالي أجل قدرا من أن يكون مملوكا، بل ربما قيل بعدم جواز شهادته (6)، مع أنه لا يقدر على شئ [و] ليس له من الأمر شئ، خلافا للشرائع (7) وشرحه (8) وشرح الكتاب (9) بل حاشيته (10)، للاطلاقات الحاكمة على الأصل، السليمة عن
Página 41
معارضة شئ بعد فرض إذن المولى له.
(و) يشترط (البصر) أيضا (على رأي) محكي عن الأكثر (1)، بل عامة من تأخر (2)، وعن الإسكافي (3) والشيخ (4) وابن سعيد (5) والمصنف (6) والشهيدين (7)، بل عن الرياض: أن شهرة هذا القول بالغة حد الاجماع، لعدم معروفية القائل بالخلاف من الأصحاب وإن أشعر بوجوده بعض العبارات (8).
واستدلوا عليه بالأصل (9)، وبتوقف القضاء على تمييز الخصوم (10) والشهود، ولكن الأصل مورود بالاطلاقات، ودعوى انصرافها إلى غير الأعمى ممنوعة جدا كما يشهد له الانصاف، كدعوى توقف تمييز الخصوم على البصر.
ولو فرض التوقف في مقام خاص التزمنا به، فالأقوى عدمه، وفاقا
Página 42
للمحكي عن بعض (1)، وتبعه صاحب الكفاية (2)، وغير واحد ممن تأخر عنه (3).
(و) يشترط فيه أيضا (العلم بالكتابة على رأي) محكي عن الشيخ (4) وأتباعه (5) وابن سعيد (6) والمحقق (7) والمصنف (8) والشهيدين (9)، بل عن عامة متأخري أصحابنا (10)، بل استظهر من السرائر دعوى الاجماع عليه، حيث نسبه إلى مقتضى مذهبنا (11)، ولعلها الحجة بعد الأصل المؤيد بافتقار القاضي إلى معرفة الوقائع والأحكام التي لا تنضبط غالبا إلا بالكتابة.
Página 43
ويرد الأصل بالاطلاقات، والشهرة بعدم بلوغها حد الاجماع.
واستظهار الاجماع من السرائر فيه ما فيه. والتوقف المدعى ممنوع، والحاجة تندفع بتفويض ضبط الوقائع إلى كتاب ثقات، فالأقوى عدمه وفاقا للمحكي عن بعض (1)، واختاره بعض مشايخنا (2).
واعلم أنه لا يبعد أن يكون مراد القائلين باشتراط البصر والضبط والكتابة، اشتراطها في تولية الشخص ولاية عامة في صقع من الأصقاع، بحيث نعلم أن فقدان هذه الأمور موجب لاختلال قضائه في بعض الوقائع - كما هو كذلك بمقتضى الانصاف - فهذه من شروط تولية الإمام له، وليست شروطا في صحة كل فرد فرد من أقضيته.
فهذه الشروط نظير اشتراط جماعة كونه عالما بجميع ما وليه (3)، حيث إنه شرط للمجموع لا لكل فرد، نظير اشتراط بعضهم البصيرة باللغات، والتدبير، واجتماع العقل والرأي، وغير ذلك من الصفات المعتبرة في كمال الرئاسة.
ويشهد لما ذكرنا دعواهم في الاستدلال غلبة توقف مقدمات القضاء على الكتابة (4)، لا أن الأمر كذلك دائما.
ومنه يعلم اشتراط عدم الخرس فيه، بل عدم الصمم أيضا، نعم ربما يقال باشتراط شروط القضاء في الفتوى أيضا. وهو ضعيف، لعدم
Página 44