وأنتم تقولون: الله - سبحانه وتعالى - آلله في حاجة إلى تعظيمنا؟!
فقلت له: لا يحول الله وجهه عنا إذا لم نفخمه، ولكن مخلوقاته قد يتنكرون لنا؛ إذ لم نعظم ونفخم.
الكرم المزعج
أقترح لهذه المآدب التي لها أول وليس لها آخر، أن يكون لها ملكة أناقة وكرم، فلا نعود نقول، مثلا، كانت هذه الحفلة سيدة الحفلات. فليكن هناك محكمون، وإذ ذاك يكون المجد للخواجه والست بحق ولا يكون الحكم اعتباطيا. فالديمقراطية لا بد لها من الشورى. ومن تأمل اللياقات التي لا حد لها، والإلحاح الذي لا ينتهي، عجب من هذا الكرم الحاتمي، حتى إذا ما انتهت المأدبة التي لا يقصد منها إلا الظهور وتعريف الناس بآدمي طازه، وما عنده من أثاث وأواني وسجاد، عاد البخل سيد الموقف. وقد لا يكون في ذلك القصر العظيم، مأوى للكتاب، ولهذا ترى غنى بلا معرفة، فكل ما عنده من سوق الفرنج ومن سوق الخضرة.
عندما ترى الواحد منهم يقبل عليك ليطعمك فوق الشبع تقول في نفسك: ما أكرم هذا الرجل! فهو يطعمنا غصبا عنا، وأي كرم فوق هذا؟! قد دعا عشرين نفسا وأعد ما يكفي مائة، فهنيئا للفقراء سيشبعون بعد ذهابنا، ولكنك لو عرفت أن البراد هو فكاك المشاكل في هذه الأيام؛ لثبت لك أن المسكين لا يفك ريقه من هذه المأدبة العامرة.
فليت أصحابنا الذين أكلنا خبزهم، وصار بيننا وبينهم خبز وملح، فكروا بالفقراء وأطعموهم ما أكلناه فوق الحاجة. لا أقول أن يكون للفقراء رصيد عندهم، وإنما أقول: لا تطعموا البراد، فأخوكم الفقير أبرد منه، فأطعموه فضلاتكم ليدفأ.
وعلى ذكر الإلحاح على الضيوف؛ إظهارا لكرمنا الحاتمي، يطيب لي - كما يعبر كبار رجال السياسة - أن أروي للقارئ هذه الحكاية: كان لأحد أعيان صيدا بنت عزيزة على قلبه جدا، فأصيبت بالتيفوئيد، وكانت حمى التيفوئيد مرضا خطرا مزعجا، فدعي لمعالجتها الدكتور كارنيليوس فان ديك، سيد الموقف الطبي في ذلك الزمان، فركب سيارة لم تكن غير حمار قبرصي، وظل يروح ويجيء يوميا، وكل وكده أن ينتصر على الداء العضال. وبعد شهرين وأكثر برئت البنت من مرضها، واحتفل الأهل بنجاتها. وكانت المأدبة على شرف الدكتور، فجاء راكبا حماره الفاره. كان الحمار يرقص رقصا تحت معلمه كأنه يشعر بما يخامره من غبطة وحبور لإنقاذه البنت العزيزة.
وحان وقت الغداء، ومدت السفرة الحافلة بأطيب الألوان، وقعد الدكتور في محله المرموق، وشرع يأكل. خاض المعركة ببسالة، ولما اكتفى رفع يديه وانصرف إلى المجاملة بلسانه. ولكن أم البنت أخذت كبيبة، محشوة باللحم والشحم، والسمنة الحموية تقطر منها، وقدمتها للدكتور فأكلها مجاملة، مع أنها وحدها كافية لإشباع رجل أكول. وما انتهى من مصارعتها حتى عرض عليه أبو البنت كبيبة لا تقل عن الشبر طولا، وهو يقول: كرمالي يا دكتور، أي إكراما لي. فأخذها الدكتور تأدبا وراح يقضمها. ولما انتهى من الإجهاز عليها ونفض يده من سمنها صاحت البنت: وكرمالي أنا واحدة ثالثة، فاعتذر الدكتور ولكن عذره لم يقبل، فقال في نفسه: أكلة وموتة فاستعد لملاقاة ربك يا دكتور.
وأخيرا انتهت المعركة الفاصلة، وغسل الدكتور يديه، وهم بالرجوع قبل أن يفتضح أمره، فجيء بالحمار وأعين الدكتور على ركوبه.
وكرج الحمار غير مبال بكرش صاحبه الذي يكاد ينشق، ولكن فان ديك رأى أن ينقذ الموقف بعد مسافة فنزل عن حماره ونام حد نبع على الطريق، ثم قام هاضما الكباب المقلية إلا قليلا، ففك رسن حماره وأدناه من العين فشرب حتى ارتوى.
Página desconocida