منذ أعوام، في جلسة واحدة، قرر أعضاء المجلس النيابي بالإجماع زيادة معاشهم مائة بالمائة، وقد قلنا لأحد المعارضين المنادين بالإصلاح: أبهذه السرعة توافق وأنت المرجى؟! فأجاب: أتريد أن أعيش عيش المقل، وغيري ينعم بميزانية الدولة؟! (3) ثلاثة أيتام
في لبنان ثلاثة أيتام بؤساء مساكين: الحق العام، والميزانية، والأوقاف.
أوجد المشترع الحق العام، محافظة على طمأنينة المجتمع وسلامته من الفوضى. ومن اسمه نعرف أنه حق عام لا يجوز أن يمس. أما عندنا، فأهون مصيبة، هي أن تقع بين أنياب الحق العام، إذا كان لك منقذ.
فالحق العام أوجده المشترع، في الدول ليصون السلم ويحسم النزاع، ولذلك أقاموا له وكيلا، حتى إذا ما ضاع الحق، ولم يكن وراءه طالب، قام ذلك الوكيل بالتفتيش عنه بلا هوادة، أما عندنا فنعمل بالمثل القائل: الفاخوري يدير أذن الجرة كما يشاء، ولا يقول له أحد ما أحلى الكحل في عينيك، ولهذا كثرت جرائم السرقات والاختلاسات والتزويرات والجنايات، وسبب ذلك أن الذي له واسطة، وظهره قوي، لا يفوز منه الحق العام بطائل.
هذه كلمة مجملة نقولها وإننا إلى التفصيل عائدون بعد انقضاء المشهد الأخير من هذه المأساة الفاجعة، وسنسمي وسطاء الخير بأسمائهم، وإن كان الكلام لا ينفع؛ لأننا نخاطب طرشان، ولكن السكوت عن هضم الحقوق جريمة.
إننا نستصرخ ضمائر مصقعة، وقلوبا مجلدة؛ لأن شعارنا بعد هذا الانحطاط الوجداني: الحكي لا يرخص بضاعة. ولكن الحقوق تصرخ نحو أصحابها وإن لم تجد من يسمع. فلو كان «للجوارير» وجدان لثارت وتظاهرت في الشوارع؛ فقد ضاقت بالفضائح القذرة، وانبعثت منها روائح، دونها قاذورات البواليع الغاصة بالنتانة.
أجل لو عقلت «الجوارير» لملأت الدنيا صياحا وأزعجت لبنان؛ لأننا لا نعطي الحق العام ربع شعرة من ذنب الجمل، والمثل يتحدث عن أذن الجمل في المآزق الخطيرة.
إن الجوارير ستثور وتكون ثورتها عظيمة، فلا خفي إلا سيظهر ولا مكتوم إلا سيعلم ويعلن، والآتي قريب. ولا يكون ذلك إلا عندما يطفح الكيل، فلنحسب حساب ثورة الجوارير ويقظة الشعب.
فلو حصلت السرقات الملايينية التي تميتها أحكام الحق العام لكانت الناس في نعيم، وما احتاجت الدولة إلى تسويف المأمورين المظلومين. ترى ألا تقول لهم هذه الأحكام الغريبة، العجيبة: زيدوا لأنفسكم، أي اسرقوا، وانتظروا البراءة بعد حين إذا افتضحتم أو اعتزمتم، فعند البهلوان دواء لكل داء ...
أما اليتيم الثاني؛ فهو الميزانية، التي يصح فيها قول المسيح: اقتسموا ثيابي بينهم وعلى لباسي اقترعوا. كنا نقول: هنيئا لمن له مرقد عنزة في لبنان، واليوم يصح لبعض أسر، ولكل لبناني منظور أن يقول: هنيئا لمن له مغرز إبرة في الميزانية. إننا لا ننكر أن في البلاد مشاريع عمرانية، وأن الجبال تزنرت بالطرقات، والأرض العطشى شرب بعضها، وسيشرب البعض الباقي ، وأن المعاول تغني في كواهل القمم، وتشق أكباد السهول، ولكننا لو سهرنا على كل ما ينفق، ووضعنا القرش موضعه لكان لبنان جنة الله في أرضه. لقد انفتح عندنا بابان في الشهر الماضي دونهما باب جهنم: الحكم على سارق مزور، وإعلامنا كيف يحتالون عندنا على التهام الميزانية باسم التعويضات والإعانات، وكلاهما وصمة عار في جبين دولتنا الناشئة.
Página desconocida