الشافعي من الأرض لأملاه من صدره- بتحريم الغناء، وهذه صورة فتياه بحروفها. قال: لا يجوز الضرب بالقضيب ولا الغناء ولا سماعه، ومن أضاف هذا إِلَى الشافعي فقد كذب عليه. وقد نص الشافعي في كتاب "أدب القضاء": أن الرجل إذا داوم عَلَى سماع الغناء ردت شهادته، وبطلت عدالته. وقال الله تعالى: ﴿أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ﴾ (١) قال ابن عباس: معناه تُغنون بلغة حمير. وقال الله ﷿: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ (٢) جاء في التفسير: أنه الغناء والاستماع إِلَيْهِ. وروي عن رسول الله ﷺ أنه قال: "إِنَّ الله كره صوتين أحمقين فاجرين: صوتٌ عند نعمة، وصوتٌ عند مصيبة". يريد بذلك الغناء والنوح. وقال ابن مسعود: الغناء خطبة الزنا. وقال مكحول: الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت السيل البقل، والله أعلم.
هذا جواب محمد بن المظفر الشامي الشافعي، ثم كتب بعده موافقة له عَلَى فتياه جماعة من أعيان فقهاء بغداد، من الشافعية والحنفية والحنبلية في ذلك الزمان، وهو عصر الأربعمائة، وهذا يخالف قول كثير من الشافعية في حمل كلام الشافعي عَلَى كراهة التنزيه.
والمعنى المقتضى لتحريم الغناء: أن النفوس مجبولة عَلَى حُب الشهوات، كما قال تعالى: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ ...﴾ (٣) الآية، فجعل النساء أول الشهوات المزينة.
والغناء المشتمل عَلَى وصف ما جبلت النفوس عَلَى حُبه، والشغف به من الصُّور الجميلة يُثير ما كمن في النفوس من تلك المحبة، ويُشوق إليها، ويُحرك الطبع ويزعجه، ويخرجه عن الاعتدال، ويؤزه إِلَى المعاصي أزًّا.
_________
(١) النجم: ٥٩ - ٦١.
(٢) لقمان: ٦.
(٣) آل عمران: ١٤.
2 / 460