وانتبه راشد بك فجأة، لينحني قائلا وهو يقفل الباب: عفوا هانم أفندي.
ويعود إلى مكتبه ويجد جدول البواخر ينتظره، فيطويه في هدوء ويضعه في الدرج الأسفل من مكتبه، ويمد رجليه على المكتب، ويزيح طربوشه إلى الوراء ويستغرق مفكرا في لا شيء. •••
حين يسمع أقدام السيدات تعبر فناء السراي، يقف إلى الشباك وينظر إليهن وهن يركبن العربة التي تجرها أربعة خيول مطهمة، ولم يلتفت إلى العربة ولا إلى الخيول وإنما تثبت نظره على التي تسير خلفهن جميعا، فلم يشك لحظة أنها أصغرهن، وأنه لا بد لها أن تكون خلفهن جميعا، إن قوامها أكثر جمالا من عينيها. أكان لا بد أن يكون لهذه السراي سلم للحريم وآخر للرجال؟ أكنت أريد أن أراها عن قرب؟ وماذا ينفع القرب؟ إن جمالها لا يحتاج إلى كثير من إنعام النظر، إنها جميلة، أو هي فاتنة لا شك في ذلك، ولكن ماذا يمكنني أن أفعل؟ أخطبها؟ هكذا مرة واحدة؟ وماذا يمكن أن أفعل غير هذا؟ - هانم أفندي. - إنها ابنة عثمان باشا فكري. - لا يفوتك شيء. - وقفتك أمام الباب كانت طويلة. - عيناها. - نعم جميلة. - أنت موافقة؟ - لا مانع.
سكت راشد بك ولم يسأل أمه عن شيء. وعم يسأل؟ ابنة عثمان باشا فكري، الأمر إذن لا يحتاج إلى سؤال. أما ثروته فمعروفة، كانت ألفي فدان بقي منها بضعة فدادين بعد البذخ الذي كان يعيش فيه، وراشد بك لا يحتاج إلى مال؛ فثروته لا يحصيها العد، وإن كان هو يجيد إحصاءها ويعرف كل خافية منها، وعثمان باشا رجل ذو مكانة مرموقة في الحياة المصرية، ولا شك أنه تولى ابنته بالتربية المعهودة، فهي تجيد التركية والفرنسية وعزف البيانو واختيار الملابس واستقبال الناس وتنسيق الأثاث وإعطاء الأوامر للخدم، ولا داعي إذن للسؤال، ولكن أمه. - لم تسأل عن خديجة؟! - اسمها خديجة؟ - يقولون إنها متحررة في آرائها. - كم عمرها؟ - بينك وبينها خمس عشرة سنة تقريبا. - أنا لست كبيرا. - ولست صغيرا. - ست وثلاثون سنة اكتمال الرجولة. - وعشرون سنة بداية الأنوثة. - ولكنها ابنة عثمان باشا فكري. - الأنوثة لا شأن لها بعثمان باشا فكري. - ما رأيك؟ - لن نجد خيرا منها. - فلماذا المناقشة إذن؟ - أريدك أن تعرف. - إذن؟! - أخطبها لك.
الفصل الثاني
المفروض أن أروي لك في هذا الفصل موقف خديجة من هذه الخطبة، ويمكن أن أروي لك هذا الموقف بطرق عدة. فمثلا أستطيع أن أقول إن خديجة كانت تحب ابن خالتها عزت بهادر الذي نشأ معها منذ الطفولة الأولى، وكان يقاربها في السن. وما دمنا نتكلم عن هذه الطبقة من الناس؛ فالمفروض أن أقول لك: إنه يهوى ركوب الخيل ويجيده، وإنه طلق اللسان - بالفرنسية طبعا - وإن لغته العربية لا تكاد تستقيم، وإنه ممشوق القوام تافه العقلية لا يفكر إلا في أتفه الأمور وأسخفها، وأكون بذلك سائرا وراء كل من كتب عن هذه الطبقة.
أو كان من الممكن أن أقول لك مثلا إن عثمان باشا فكري دخل إلى ابنته، فقال لها: أبشري يا خديجة، عندي لك أعظم خبر . - صحيح يا بابا؟
وطبعا حين تقرأ «بابا» لا بد لك أن تشدد الباءين، فهكذا تنطقها ممثلات السينما في أفلامنا العربية. نرجع الآن إلى الحوار الذي كان المفروض أن أقدمه إليك، يقول الأب وقد تهلل وجهه بالفرح: جاءك عريس لا مثيل له في مصر.
وهنا كنت سأحتار كيف أكمل المشهد، هل ستطرق خديجة في حياء؟ أم تراها كانت ستقول: من؟
وعلى الحالين، كان عثمان باشا يقول: راشد بك برهان.
Página desconocida