في تلك الساعة، عاهدت نفسي على أن أنتشلها من هوة الخمول. في تلك الليلة عقد دخان سكائري غيوما في غرفتي، وتذمر الجيران من رائحة البن في مطبخي، وتمخضت ب «نخب العدو». وجدت في تلك الليلة أن بين يدي ثروة من مذكرات دونتها في أحلامي النهارية، وفي أسفاري، ورجعت إلى أوراق صباي، أستوحيها ثقة بنفسي كادت تتلاشى، وكحلت عيني برؤية صورتي، يطرز إطارها في الصحف عبارات التقريظ، وناديت نفسي مشجعا: «إلى الأمام! تقدر أن تؤلف. تقدر أن تؤلف.» والله لأؤلفنها هذه الليلة! هذه حوادثها واضحة في رأسي، ومواقفها لا ينقص إلا أن أضعها على الورق. ها هي العبارات تثور، والمكالمات تتسابق إلى الجلوس على القرطاس. «لأؤلفنها هذه الليلة!» قلتها لنفسي وأنا أجتر انتصارات غابرة، ومشى بي بصري في مقالة مدح من قلم توفيق قربان إلي: «ونرجو أن يماشي سعيد تقي الدين في تآليفه المستقبلة مبدأ النشوء والارتقاء.» «النشوء والارتقاء» - ها! تلك العبارة كبحت جنوني، وردت المنطق إلى تفكيري. النشوء والارتقاء. تقدم على مهل. كن أمينا للذين تفاءلوا بك. درامة، لا تكتب في ليلة. إلى فراشك يا غلام! اذكر أن أحب خلانك إليك يقول لك إنك مجازف متهور. لولا هاتان الخصلتان لكنت اليوم غنيا. لا تجازف بأدبك كما جازفت بمالك. الرواية لا تكتب بليلة. كن صادقا لفنك، وتوجه إلى الناس بنهاية النهاية من مقدرتك. إن هذه المواد التي بين يديك قد تظهر لأول وهلة وافرة، فاقتطف منها أطيبها، وارم الحامض والمهترئ. قد تكون هذه آخر قفزاتك في الحياة، فتطلع قبل أن تقفز - حذار المهاوي.
وما زلت أحذف، وأكتب وأمزق، وأزيد وأنقص، إلى أن تجهزت هذه الدرامة.
فن مبذر مقامر
قد يكون ولعي بتأليف الدرامة أنه وقع مني على طبع مجازف. فالشاعر مثلا ينظم أبياته في لحظات أو ساعات، فإن جاءت شعرا، شعرا، رددها الناس عاما فعاما، وجيلا فجيلا. أما المؤلف المسرحي فيصب فنه وروحه وخبرته، ويقوس ظهره ناحتا حجارة قصر يشيده - لماذا؟ ليبيت فيه جمهوره ليلة، بل ساعتين أو ثلاث ساعات من ليلة. يا له من فن مسرف! القصاص يؤلف له نوفلة أو قصة قصيرة في وسعك أن تقرأها في فراشك، أو في القطار، أو حيث تستطيب، وحين تكون نفسيتك في شوق إلى قراءتها. أما الدرامائي فيشتغل، ويستشغل جيشا من مخرجين وممثلين ودهانين و، و، و... ويقول للناس: تعالوا إلي في الليلة الفلانية، واسمعوا إلى ما أحدثكم به، وانظروا ما أعرضه عليكم. أنتم القضاة، وليس لحكمكم استئناف، ولا تمييز. لا أبالي في أية حالة نفسية أنتم. أريدكم في الساعة كذا أن تجتمعوا، والساعة كذا أن تنصرفوا. أنتم لكم ذهنيات متباينة أفرادا، ولكم نفسية خاصة مجتمعين، ومن المحتم علي أن أفهمكم أفرادا وجماعة، وهو فرض لا يعترض طريق فنان سواي.
الدرامائي رجل الشارع
هو بحكم الحال فنان غير اختصاصي. فالمصور مثلا يقدر أن ينصرف إلى التصوير فقط، بل في وسعه أن يجنح إلى فرع من فروع التصوير، وله أن لا يفهم شيئا سواه، وليس في ذلك ما يعيبه، بل إن نوابغ الفن المجازي جاءوا فقراء في دراسة الدنيا وشئونها. أما الدرامائي، فتتنوع أشخاص روايته، واختلاف مشاكلها ومواقفها؛ يحتم عليه أن يفهم كل شيء من العلوم والناس والتجارب، إن لم يكن من الألف إلى الياء، فعلى الأقل من الألف إلى الباء، فلا تتخيلن الدرامائي فنانا كلاسيكيا تهدل شعره، وتاهت إلى ما وراء الأفق نظراته، بل هو ابن الأرصفة، يسحب الأرانب من القبعات، ومن حصافة الرأي إذا صافحته أن تعد أصابع يدك، لتتأكد أنها لا تزال في مكانها.
كنت في «نخب العدو» أسائل نفسي، وأسائل الشهيرين من الأطباء، هل العلم يضحك من نظريتي التي وضعتها على فم «الدكتور نجيب» من أن المفاجأة العظمى تشفي العمى العصبي؟ هي نظرية ولدها خيالي، أيمكن أن تكون أو تصير حقيقة علمية؟ ابتسم الأطباء، وقالوا: من حظ المرضى أنك لم تمتهن الطب. إلى أن وقعت بين يدي مجلة أميركية، فإذا بعض أنواع العمى الذي يسببه الغضب يشفيه الخداع، أو اليقين. وعقبها بحث آخر في مجلة ثانية، تذيع أن الموسيقى تشفي بعض العميان. ومن تبسط في درس تينك المقالتين يجد أن حادثة عمى «وسيم الحموي» في «نخب العدو» وشفائه ليست من الغرابة بقدر ما تبدو لأول وهلة، بل إنها ربما كانت أو صارت حقيقة علمية. اتركها في «نخب العدو» يا غلام، واسبح في أحلامك النهارية، وادع أنك أصبت في الطب فتحا جديدا. بل انظر إلى نفسك في مرآة مقعرة، وقل لقد تنبأ «جون فرن» بالغواصات والطيارات. أنا جول فرن الطب! وليس على الادعاء ضريبة.
ولماذا لم تنشأ عندنا الدرامة؟
أقول: إن في شعبنا مواهب أدبية وإلهاما صافيا. أقول: إن ما ينتجه اليوم بعض شعرائنا هو من أصفى الشعر وأبدعه. أقول لجماعة بيروت - وفيهم كل قريب وحبيب: لقد أصبحتم ولا يعجبكم العجب، فلا تقتلوا بمرارة نقدكم شاعرية إخوانكم. وبعد، فالنقد فن زائف ومهنة طفيلية. فاصرفوا همكم إلى الإنتاج، وشيدوا لنا القصور والجسور، نتعلم منها فن البناء أكثر من تعلمنا إياه في خرائطكم الزرقاء، ولماذا لا تتأكدون من وجود الغلال على البيادر قبل أن تقيموا فبارك الغرابيل؟!
أما طوفان النقد في سوريا ولبنان، فراجع إلى أسباب عدة، أترك منها ما هو معروف وشائع، وأذكر ما أعتقد أنه على القراء جديد. فالنقد يوهم صاحبه - ولو ضمنا - بالتفوق على المنقود. أنا أنقدك إذن أنا أفضل منك، وما دام حب التسود غريزة إنسانية، فلا عجب إذا تفشى داء النقد. ثم إن في قرارة النفس الإنسانية في كل شعب وقطر - ولا احتكار في الموبقات - حثالة لؤم يفسح النقد عنه؛ فلا عجب إذن إذا شاع. زد على ذلك أن النقد يضع بيني يدي الأديب أو المتأدب موضوعا جاهزا، فلا حاجة إلى حك الرأس والتنقيب عن موضوع يبحثه الكاتب. كذلك ليس من إنتاج - مهما عظم - إلا وفيه نواح ضعيفة، يسهل اكتشافها، فتسري نشوة الظفر في عروق الناقد مكتشفها. كذلك التطرف يولد التطرف. القياصرة خلقوا البلاشفة، والمديح بلا وزن سبب النقد الأعمى، وسيأتي يوم تتزن فيه خطواتنا، في الطريق الوسط السوي، ولكننا أغربنا عن الموضوع، وكان «لماذا لم يكن عندنا درامة؟»
Página desconocida