لا يثق بالناس، ذو سليقة صادقة في بني الإنسان. غير أنه وجد في «وسيم» صديقه وزعيمه، فرضي أن يقاد من غير أن يشترك بسوق سيارة الحياة، بأكثر مما يشترك الجالس إلى جانب الشوفير: «أخطأت. عجل. تمهل. كنت قتلتنا.» لم يرث عن أبيه بأسا، ولا طيشا، عيناه إبرتان من نار.
إذا تزوج راجي فتاة تحسن سرجه، وتجيد ترويضه، ركض، وخلف جمهور الناس بعده بأميال، ولكن راجي أعقل من أن ينهز نفسه، وصعب عليك أن تجره، فسيموت رجلا «كان في وسعه أن يكون ...»
وسيم الحموي
أصحيح أن بني لبنان بأنفسهم مغرورون؟ العجب لو أنهم كانوا غير مغرورين. يخلق طفلهم على صوت الأهازيج، والبارود، يتزوج على ألحان الدبكة، يدفن على موسيقى الندب. يمرض فيعوده المئات، فهو أبدا مدار اهتمام الناس. خراج الضيعة اللبنانية هو الحد الذي يفصلها عن الدنيا. الدنيا ليست مهمة. الضيعة هي كل شيء، وفي الضيعة مدفن الجدود، وفي الضيعة ملك اللبناني، بل كما بحق يدعونه «رزقه». قد لا تكون أرزاق الواحد منهم واسعة، أو غنية، ولكن فيها أبدا شيء غير عادي، يفوق أعظم شيء في الدنيا. قد يكون فيها أشهى عنقود، أو أطول حية، أو أكبر صخر، أو مطار أكبر سرب حجال، وإذا ندر فحرم شيئا من هذا، فلا يعدم أن يكون بين أجداده رجل عظيم . حدث أي لبناني عن عائلته، يبادرك: «جدي كان ذراع الأمير بشير. جدي قتل الضبع. جدي يحفن الجمر بيدين عاريتين. جدي قاض، قائد ... إلخ»، فهذا التراث الحقيقي، أو الموهوم، أو المزيج من الاثنين يخلق في اللبناني مركب تفوق،
2
يتهرأ إلى الغرور والخيلاء في البعض، ويصهر إلى اتزان في الآخرين، ولا تنس أن للبناني دائما أعداء. ابن المدينة في وسعه أن يعيش كأنه ثقب في حائط. أما ابن الضيعة، فهو من الأهمية بحيث يكون له أعداء أبدا، والعداء يثير - فيما يثير - التهالك على التفوق. عار عليه أن يفشل؛ لا لأن الفشل عار بنفسه؛ بل لأن أولاد العائلة الفلانية أو الحي الفلاني يشمتون.
فوسيم الحموي إذن حين طلب العلم في مدينة بيروت كان على شيء من الخيلاء، بررته انتصاراته المدرسية، وخففت من غلوه أنه كان في نظر رفاقه أبناء المدينة «جبلي» فقط لا غير. فابن الضيعة، في المدينة، عليه أن يفوز بالكثير قبل أن يتخطى ذلك الحاجز، الذي يقفصه في عيون أبناء المدن، إلى ذلك المستنقع الوخم، الذي يسمى «الضيعة»، ووسيم كان طفلا حين قتل أبوه، فجعلت له أمه من أبيه مثلا أعلى يباريه. أبو وسيم كان أشجع، وأذكى، وأشرف خلق الله؛ إذن فعلى وسيم أن يكون كأبيه. حينما سمعت أم وسيم أن ابن الحموي أجريت له عملية «البحصة» في بيروت - «بحصة، هاه!» صارت أم وسيم، وانتزعت من صندوقها حجرا كالليمونة، وقالت: «هذا الحجر أخرجه الدكتور من مبولة أبي وسيم، وهو أكبر من أكبر رأس في بيت الحمصي.»
لهذا نشأ وسيم - وأمامه أبوه المقتول، مثل أعلى يتحداه - شديد الثقة بنفسه، فوار الطموح. تأدب، فانصرف إلى النوع الخطر من الأدب، ذلك الأدب الذي يغوي صاحبه إلى أن «يعيش» أدبه، بدلا من أن يقتصر على أن يكتبه فقط. هادئ، فإذا ثار انقلب إلى زوبعة، كثير التخيل والأحلام، لو جاءت مشاريعه الأدبية والتجارية سلسلة، لوصلت جهنم بالجنة، ودارت حول الأرض 471 مرة، وفي، يحب راجي حب الصديق، ممزوجا بعاطفة أبوة، فراجي بنظر وسيم طفل قوي الجسم ، رزين ، غلا في ساعات الدعاب، نوره ليس بمصباح دائم الشعاع، بل هو أسهم نارية، تنفجر بدوي عظيم، وتلمع في السماء لمعات جميلة متقطعة، وبين اللمعة واللمعة ظلام كثيف. فهو جواد، فتي، جموح، صبوح، ينقصه الكثير من الترويض؛ ليصلح للنزول إلى ميدان الحياة، وإنهائه الشوط في طليعة الجياد، ورث عن أمه التحدث لنفسه بصوت عال.
إذا بلغ الهرم فقد يتزن إلى نابغة. غير أنه من أولئك الفتيان المتوهمين، الذين لا أقول يموتون باكرا، بل يصرعون باكرا.
فرج الله
Página desconocida