بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
ـ[النكت في القرآن الكريم (في معاني القرآن الكريم وإعرابه)]ـ
المؤلف: علي بن فَضَّال بن علي بن غالب المُجَاشِعِي القيرواني، أبو الحسن (المتوفى: ٤٧٩هـ)
دراسة وتحقيق: د. عبد الله عبد القادر الطويل
دار النشر: دار الكتب العلمية - بيروت
الطبعة: الأولى، ١٤٢٨ هـ - ٢٠٠٧ م
عدد الأجزاء: ١
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
1 / 94
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
فاتحة الكتاب
مدنية، والبقرة مدنية، وآل عمران مدنية، والنِّسَاءَ مدنية، والمائدة مدنية، والأنعام مكية نزلت جُملةً ما خلا ثلاث آيات، فإنها نزلت بالمدينة، وهي قوله تعالى: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ) [١٥١] إلى تمام الثلاث. والأعراف مكية، والأنفال مدنية، وهي أول ما أنزل. وبراءة مدنية، وهي آخر ما أنزل بالمدنية.
قال أبن عباس: قلت لعثمان: ما حملكم على أن قرنتم بين الأنفال وبراءة، والأنفال من المثاني، وبراءة من المئين، فلم تكتبوا بينهما سطر (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) فقال عثمان: إن السورة والقصة والآية كُنَّ إذا نزلْن على النبي صلى الله [عليه] وسلم قال لبعض من يكتب الوحي: ضعوها إلى موضع كذا، أو إلى جنب كذا، وإن براءة نزلت والنبي ﷺ لم يتقدم فيها إلينا بشيءٍ، وقصتها تُشبهُ قصة الأنفال، فخفنا أن تكون منها وخفنا أن لا تكون منها، فمن ثم قرنا بينهما.
1 / 95
ولم نكتب سطر (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) . يونس مكية، هود مكية، ويوسف مكية، والرعد مكية، وإبراهيم مكية ما خلا آيتين منها، فإنهما نزلتا بالمدينة في قتلى بدر من المشركين، وهما: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا) [٢٨] إلى تمام الآيتين، الحجر مكية، والنحل مكية، ما خلا ثلاث آيات من آخرها، فإنها نزلت بين مكة والمدينة في منصرف رسول الله ﷺ وقد قتل حمزة ﵁، ومثل المشركون به، قال النبي ﷺ لئِنْ أظفرنا الله بهم لنُمثلنَّ بهم مُثلًا لم تمثل بأحدٍ من العرب. فأنزل الله تعالي بين مكة والمدينة: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ) [١٢٦] إلى آخر السورة، وما نزل بين مكة والمدينة فهو مدني، وسورة بني إسرائيل مكية، والكهف مكية، ومريم مكية، وطه مكية، والأنبياء مكية، والحج مكية، ما خلا ثلاث آيات منها، فأنها نزلت بالمدينة في ستة نفرٍ: ثلاثة منهم مؤمنون وثلاثة
1 / 96
كافرون فأما المؤمنون: فعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب، وحمزة بن عبد المطلب، وعلي بن أبي طالب ﵁ وأما الكافرون فعتبة وشيبة ابنا ربيعة، والوليد ين عتبة. فأنزل الله ﷿ بالمدينة: (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) [الحج: ١٩] إلى تمام الثلاث آيات. سورة المؤمنين مكية، والنور مدنية، والفرقان مكية، والشعراء مكية ما خلا خمس آيات من آخرها، فإنها نزلت بالمدينة، وهي قوله ﷿: (وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (٢٢٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (٢٢٥) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (٢٢٦) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) [٢٢٤ - ٢٢٧] يعني حسان بن ثابت، وكعب بن مالك، وعبد الله بن رواحة.
هؤلاء شعراء رسول الله ﷺ، إلى آخر السورة، والنمل مكية، والقصص مكية، والعنكبوت مكية، والروم مكية، ولقمان مكية ما خلا ثلاث آيات منها،
1 / 97
فإنها نزلت بالمدينة، وذلك أنه لما قدم رسول الله ﷺ المدينة أتته أخبار اليهود، فقالوا: يا محمد بلغنا أنك تقول: (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) [الإسراء: ٨٥] أفعنيتنا أم عنيت قومك؟ فقال ﷺ: عنيت الجميع، فقالوا: يا محمد أما تعلم أن الله جل وعز أنزل التوراة على موسى بن عمران ﵇ والتوراة فيها أنباء كل شيء، وخلفها موسى فينا ومعنا؟، قال النبي صلي الله عليه [وسلم] لليهود التوراة وما فيها من الأنباء قليل في علم الله ﷿ فأنزل الله تعالى في المدينة: (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ) [لقمان: ٢٧] إلى تمام الآيات الثلاث.
وآلم السجدة مكية، ما خلا ثلاث آيات منها، فإنها نزلت بالمدينة في علي بن أبي طالب ﵁ والوليد بن عقبة بن أبي معيط، وذلك أنه شجر بينهما كلام، قال الوليد لعلي بن أبي طالب ﵁: أنا أدرب منك لسانًا، وأحد سنانًا، وأرد للكتيبة، فقال له علي ﵁ اسكت، فإنك فاسق: فأنزل الله تعالى بالمدينة: (أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ) [١٨] إلى تمام الآيات. الأحزاب مدنية، سبأ مكية، فاطر مكية، يس مكية، والصافات مكية، ص مكية، والزمر مكية، ما خلا ثلاث آيات منها، فإنها نزلت بالمدينة في وحشي قاتل حمزة ﵁ وذلك أنه أسلم ودخل المدينة، فكان يثقل على رسول الله ﷺ النظر إليه فتوهم أن الله ﷿ لم يقبل إسلامه، فأنزل الله ﷿ بالمدينة: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ) [٥٣]
1 / 98
إلي تمام الثلاث آيات، والحواميم السبع كلهن مكيات، وسورة محمد ﷺ مدنية، وسورة الفتح مدنية، والحجرات مدنية، وق مكية، والذاريات مكية، والطور مكية، والنجم مكية، والقمر مكية، والرحمن مكية، والواقعة مكية، وسورة الحديد مدنية، وسورة المجادلة مدنية، وسورة الحشر مدنية، وسورة الممتحنة مدنية، وسورة الصف مدنية، والجمعة مدنية، والمنافقون مدنية، والتغابن مكية، ما خلا ثلاث آيات من آخرها، فإنها نزلت في عوف بن مالك الأشجعي، وذلك أنه شكا إلى رسول الله ﷺ جفاء أهله وولده به، فأنزل الله ﷿ بالمدنية: (يَا أَيُّهَا
1 / 99
الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) [التغابن: ١٤] إلى آخر السورة.
الطلاق مدنية، التحريم مدنية، الملك مكية، والقلم مكية، والحاقة مكية، وسأل سائل مكية، نوح مكية، سورة الجن مكية، المزمل مكية ما خلا آيتين منها، فإنهما نزلتا بالمدينة: (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ) [٢٠] إلى تمام الآيتين. ثم الفرقان بعد ذلك كله مكي إلى أن يبلغ: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) [القدر: ١] فإنها مدنية، لم يكن مدنية، إذا زلزلت مكية، والعاديات مكية، القارعة مكية، والتكاثر مكية، والعصر مكية، الهمزة مكية، الفيل مكية،
1 / 100
لإيلاف قريش مكية، وقبل هما سورة واحدة، أرأيت مكية، والكوثر مكية، الكافرون مكية، النصر مكية، تبت يدا أبي لهب مكية، الإخلاص مكية، الفلق مدنية، الناس مدنية.
(ومن سورة الفاتحة)
البسملة:
روى السُّدي عن أبي مالك عن ابن عباس في قوله ﷿: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ
1 / 101
الرَّحِيمِ) الباء: بهاءُ الله، السين: سناءُ الله، والميمُ: مُلك الله: والله: الذي يأله إليه خلقهُ، والرَّحمن: قال المترحم على خلقه: الرحيم بعباده فيما ابتدأهم به من كرامته.
ويروى عنه أيضًا، أنه قال: الرحمن الرحيم اسمان رقيقان، أحدهما أرق من الأخر، وقيل: في الجمع بينهما أن الرحمن أشد مبالغة، والرحيم أخص منه.
فالرحمن لجميع الخلق، والرحيم للمؤمنين خاصة، قال محمد بن يزيد: هو تفضل بعد تفضل، وإنعام بعد إنعام، ووعد لا يخيب آمله.
وأصل الرحمة رقة في القلب، والله تعالى لا يوصف بذلك، إلا أن معنى الرقة يؤول إلى الرضا؛ لأن من رحمته فقد رضيت عنه. وإذا احتملت الكلمة معنيين: أحدهما يجوز عن الله، والآخر لا يجوز عليه، عدل إلى ما يجوز عليه.
ومثل ذلك همزة الاستفهام تأتي في غالب الأمر على جهل من المستفهم، فإذا جاءت من الله ﷿ كانت تقريرًا وتوبيخًا: نحو: (أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ) [يونس: ٥٩]، قال مقاتل بن سليمان في الاستفتاح: من حساب الجمل سبعمائة وسبع وثمانون سنة من مدة هذه الأمة.
قال الخليل: (بسم الله) افتتاح إيمان ويمن، وحمد عاقبة، ورحمة وبركة وثناء وتقرب إلى الله ﷿، ورغبة فيما عنده، واستعانة ومحبة له، علم الله ﷿ نبينا محمد ﷺ
1 / 102
فقال: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) [العلق: ١]، وقال: (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) [الحاقة: ٥٢] وقال نوح ﵇: (بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا) [هود: ٤١] ليجعلها سنة لأمته في افتتاح الذبائح والطعام والشراب والكلام، وأن يذكرونه عند كل حركة وسكون، وإذا قاله العبد يسر الله تعالى ما بين يديه من السماء إلى الأرض وثبته وحرسه من وسواس الشيطان، واعتراض المعترضين وفساد المفسدين وكيد الحاسدين، وهي تحية من الله ﷿ خص بها نبيه، وجعله باللسان العربي ما لم يكن لسائر الأمم، إلا ما كان من سليمان، فلما وردت على العرب اضطروا إلى قبولها وتدوينها والإقرار بفضلها ولفظوا بها عند وجوب الشكر وطلب الصبر.
قال غير الخليل: هو أدب من آداب الدين، ومدح لله تعالى وتعظيم وشعار للمسلمين، وتبرك للمستأنف، وإقرار بالعبودية، واعتراف بالنعمة، واستعانة بالله ﷿ وعبادة له، مع ما فيه من حسن العبارة، ووضوح الدلالة، والإفصاح والبيان لما يستحقه الله من الأوصاف.
وفيه من البلاغة والاختصار، في موضعه بالحذف على شرائطه. إذ موضوع هذه الكلمة على كثرة التكرير، وطول الترديد، وفيه الاستغناء بالحال الدالة على العبارة عن ذكر أبدًا، لأن الحال بمنزلة الناطقة بذلك، وفيه من البلاغة تقديم الوصف بالرحمن تشبيهًا بالأسماء الأعلام.
مسألة:
ومما يسأل عنه من الإعراب أن يقال: ما موضع الباء من (بسم الله)؟
والجواب: أن العلماء اختلفوا في ذلك، فذهب عامة البصريين إلى أن موضع الباء رفع على تقدير مبتدأ محذوف تمثيله: ابتدائي بسم الله، فالباء على هذه متعلقة بالخبر المحذوف الذي قامت مقامه تقديره: ابتدائي كائن أو ثابت أو ما أشبه ذلك بسم الله، ثم حذفت هذا الخبر، وكان فيه ضمير فأفضى إلى موضع الباء، وهذا بمنزلة قولك: زيد في
1 / 103
الدار، ولا يجوز أن يتعلق الباء بابتدائي المضمر؛ لأنه مصدر، وإذا تعلقت به صار من صلته، وبقي المبتدأ بلا خبر.
وذهب عامة الكوفيين وبعض البصريين إلى أن موضع الباء نصب على إضمار فعل، واختلفوا في تقديره، فذهب الجمهور منهم إلى أنه يضمر فعلًا يشبه الفعل الذي يريد أن يأخذ فيه، كأنه إذا أراد الكتابة أضمر: أكتب، وإذا أراد القراءة أضمر: أقرأ، وإذا أراد الأكل والشرب أضمن: آكل وأشرب.
ومما يسأل عنه أن يقال: لم جرت الباء؟
والجواب: أنها لا معنى لها إلا في أسماء، فعملت الإعراب الذي لا يكون إلا في الأسماء وهو الجر.
ويقال: لم حركت وأصلها السكون؟
والجواب: أن يقال: حركت للابتداء بها؛ لأنه لا يصح أن يبتدأ بساكن؛ لأن اللسان يجفو عنه.
ويقال: فلم اختير لها الكسر؟
والجواب: أن أبا عمر الجرمي قال: كسرت تشبيهًا بعملها، وذلك أن عملها الجر وعلامة الجر الكسرة، فأعترض عليه بعد موته بأن قيل: الكاف تجر، وهي مع ذلك مفتوحة، فأنفك أصحابه من هذا الاعتراض بأن قالوا: أرادوا أن يفرقوا بين ما يجر ولا يكون إلا حرفًا نحو الباء واللام، وبين ما يجر، وقد يكون اسمًا نحو الكاف: وأما أبو علي فحكى عنه الربعي أنهم لو فتحوا أو ضموا الكاف لكان جائرًا؛ لأن الغرض
1 / 104
التوصل إلى الابتداء، فبأي حركة توصل إليه جاز، وبعض العرب يفتح هذه الباء وهي لغة ضعيفة.
مسألة:
ومما يسأل عنه أن يقال: ما وزن (اسم) وما اشتقاقه؟
والجواب: أنه قد أختلف فيه، فذهب البصريون إلى أنه من (السَُمُو)، لأنه سما من مسماه، فبينه وأوضح معناه.
وذهب الكوفيون إلى أنه من (السَّمَةِ)، لأن صاحبه يُعرفُ به. وقول البصريين أقوى في التصريف، وقول الكوفيين أقوى في المعنى.
فمما يدل على صحة قول البصريين قولهم في التصغير: (سُمَيُّ)، وفي الجمع: (أَسْمَاءُ) وجمع الجمع: (أَسَامٍ)، ولو كان على ما ذهب إليه الكوفيون، لقيل في تصغيره: (وسِيمُ)، وفي جمعه: (أَوسُمُ) وفي امتناع العرب من ذلك دلالة على فساد ما ذهبوا إليه.
وأيضًا فإنا لم نر ما حذفت فاؤه دخلت فيه همزة الوصل، وإنما تدخل فيه تاء التأنيث، نحو: عدة وزنة.
وقد قيل: هو مقلوب جعلت الفاء مكان اللام، كأن الأصل: (وسم) ثم أخرت الواو وأعلت، كما قالوا: (طاد)، والأصل: (واطد)
قال القطامي:
مَا اعتاد حُبُّ سُلَيمَى حينَ مُعتَادِ وَلا تَقَضَّى بَواقِي دَينِهَا الطَّادِي
فوزنه على هذا (عالف) . وكذا قيل في (حادي عشر): أنه مقلوب من واحد، ووزن اسم (إعل) أو (افع) والأصل: (سُمو، أو سمو) بإسكان الميم فأعل على غير قياس، وكان
1 / 105
الواجب أن لا يعل، لأن الواو والياء إذا سكن ما قبلهما صحتا، نحو: (صنو، وقنو، ونحي، وظبي) وما أشبة ذلك. وقيل: وزنه: (فعل) بضم الفاء، وقيل: (فعل) بكسرها، لقولهم: (سم، وسم) ولم يسمع (سم) بفتح السين. أنشد أبو زيد:
بسم الذي في كل سورة سمة قد أخذت على طريق تعلمه
يروى بضم السين وكسرها، ثم حذفت الواو على غير قياس، وكان يجب أن تقلب ألفًا كما فعل في نحو: (ربا، وعصا، وعرا)، وما أشبه ذلك، لأن الواو والياء إذا تحركتا وأنفتح ما قبلهما قلبتا ألفا على كل حال، إلا أنهم أرادوا أن يفرقوا بين المتثبت وغير المتثبت فالمتثبت، نحو: أخ وأب، لأنك إذا ذكرت كل واحد منهما دل على نفسه وعلى معنى آخر. ألا ترى أنك إذا ذكرت أبًا دلك على أب، وإذا أخًا دلك على أخ أو أخت. إلا أن هذا المحذوف أتى على ضربين:
أحدها: لم يقع فيه عوض من المحذوف، نحو: أب وأخ.
والثاني: عوض فيه من المحذوف همزة، نحو: اسم وابن، وهذه الأسماء التي دخلتها همزة الوصل مضارعة للفعل؛ لأنها مفتقرة إلى غيرها، فصارت: بمنزلة الفعل المفتقر إلى فاعله، وأصل هذه الهمزة أن يكون في الأفعال فلما ضارعت هذه الأسماء الأفعال أسكنوا أوائلها، وأدخلوا فيها همزات الوصل.
وفي (اسم) خمس لغات. يقال: (اسم) بكسر الهمزة، و(اسم) بضمها في الابتداء و(سم) و(سم) و(سمى) بمنزلة هدى. هذه اللغة حكاها ابن الأعرابي.
فأما ما أنشد أبو زيد من قول الشاعر.
1 / 106
لأحسنها وجهًا وأكرمها أبًا وأسمحها نفسًا وأعلنها سما
فيجوز أن يكون (فعلاُ) مثل (هدى)، وتكون الألف منقلبة عن لام الفعل، ويجوز أن تكون الألف ألف النصب التي تدخل في نحو قولك: رأيت زيداُ. وهذا الاحتمال على مذهب من ضم السين.
فأما من كسرها، فالألف ألف النصب على كل حال.
مسألة:
ومما يسأل عنه أن يقال: مم أشتق قوله (الله) وما أصله؟
والجواب: أن فيه خلافًا.
ذهب بعضهم إلى أنه من (الولهان)، قيل: لأن القلوب تله إلى معرفته. وقيل: اشتقاقه من (أله، يأله) إذا تحير، كأن العقول تتحير فيه عند الفكرة فيه.
قال الشاعر، وهو زهير:
وبيداء قفر تأله العين وسطها مخفقة غبراء صرماء سملق
وقال الفراء: هو من (لاه، يليه، ليها) إذا أستتر، كأنه قد أستتر عن خلقه.
ويروي عن علي بن لأبي طالب ﵁ أنه قال: معناه المستور عن درك الأبصار، محتجب عن الأوهام والخطرات.
وأنشدوا في ذلك:
تاه العباد ولاه الله في حجب فالله محتجب سبحانه الله
1 / 107
وذهب الخليل وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن: إلى أنه اسم علم غير مشتق من شيء. والذي يذهب إليه المحققون: أنه من التأله، وهو: التعبد والتنسك، قال رؤبة:
لله در الغانيات المده سبحن واسترجعن من تألهي
أي: من تعبدي وتنسكي
حكى أبو زيد: تأله الرجل يتأله: وهذا يحتمل عندنا أن يكون أشتق من اسم الله ﷿، على حد قولك: استحجر الطين، واستنوق الجمل، فيكون المعنى أنه يفعل الأفعال المقربة إلى الله تعالى التي يستحق بها الثواب، ويحتمل أن يكون الاسم مشتقًا من هذا الفعل، نحو: تعبد، وتسمى الشمس: الإهة والإلاهه، روي لنا ذلك من قطرب، وأنشد.
تروحنا من اللعباء قصرًا وأعجلنا الالهه أن تغيبا
1 / 108
كأنهم سموها إلاهة على نحو تعظيمهم لها، وعبادتهم إياها، ولذلك نهاهم الله ﷿ عن ذلك، وأمرهم بالتوجه في العبادة إليه دون خلقه، فقال الله تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) [فصلت: ٣٧]، ويدل على هذا ما حكاه أحمد بن يحيي: أنهم يسمونها (إلهة) غير مصروفة. فدل ذلك على أن هذا الاسم منقول إذا كان مخصوصًا، وأكثر الأسماء المختصة الأعلام منقول، نحو: زيد وعمرو. وقرأ ابن عباس: (وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ) [الأعراف: ١٢٧] أي: وعبادتك، وكان يقول: كان فرعون يُعبَدُ ولا يَعْبُدُ، وأما قراءة الجماعة: (وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ)، فهو جمع إله، كإزار وآزرة، وإناء وآنية. والمعنى على هذا: أنه كان لفرعون أصنام يعبدها شيعته وأتباعه، فلما دعاهم موسى ﵇ إلى التوحيد حضوا فرعون عليه وعلى قومه، وأغروه بهم.
ويقوي هذه القراءة، قوله تعالى: (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ) [الأعراف: ١٣٨] . وأما الأصل في قولنا: (الله) فقد اختلف قول سيبويه في ذلك؛ فقال مرة: الأصل: (إله)، ففاء الكلمة على هذا همزة، وعينها لام، والألف ألف فعال زائدة واللام هاء.
وقال مرة: الأصل (لاه)، فوزنه على هذا (فعل)، ولكل من هذين القولين وجه. وإذا قدرته على الوجه الأول فالأصل (إله)، ثم حذفت الهمزة حذفًا لا على طريق التخفيف القياسي في قولك: الخب وضوء في ضوء، فإن قال قائل: فلم قدرتموه هذا التقدير، وهلا حملتموه على التخفيف القياسي إذا كان تقدير ذلك سائغاُ غير ممتنع،
1 / 109
والحمل على القياس أولى من الحمل على الحذف الذي ليس بقياس؟ قيل له: إن ذلك لا يخلو من أن يكون على الحذف الذي ذكرناه وهو مذهب سبيويه، أو على الحذف القياسي وهو مذهب الفراء، وذلك أن الهمزة......
(ومن سورة البقرة)
فصل:
(إذا) في الكلام على ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون ظرفًا زمانيًا، وفيها معنى الشرط، ولا يعمل فيها إلا جوابها، نحو ما في هذه الآية من قوله تعالى: (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا) [البقرة: ١٤] فالعامل في إذا (قَالُوا)، لأنه الجواب، ولا يجوز أن يعمل فيها (لَقُوا)، لأنها في التقدير مضافة إلى (لَقُوا) ولا يعمل المضاف إليه في المضاف. وكذا: (وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ) [البقرة: ١٤] .
والثاني: أن يكون ظرفًا مكانيًا، نحو قولك: خرجت فإذا الناس وقوف. ويجوز أن تنصب وقوفًا على الحال، لأن (إذا) ظرف مكان، وظرف المكان يكون إخبارًا عن الجثث.
وهذه المسألة التي وقع الخلاف فيها بين سيبويه والكسائي لما اجتمعا عند يحيي ابن خالد بن برمك.
1 / 110
حدثنا أبو الحسن الحوفي بمصر عن أبي يكر بن الأذفوي عن أبي جعفر أحمد بن محمد النحاس عن علي بن سليمان، ثنا أحمد بن يحيي ومحمد بن يزيد، قالا: لما ورد سيبوبه بغداد شق أمره على الكسائي فأتى جعفر بن يحيي والفضل بن يحيي، فقال: أنا وليكما وصاحبكما وهذا الرجل قد قدم ليذهب بمحلي، فقالا له: فاحتل لنفسك فإنا سنجمع بينكما، فجمعا بينهما عند أبيهما، وحضر سيبويه وحده، وحضر الكسائي ومعه الفراء وعلي الأحمر وغيرهما من أصحابه، فسألوه: كيف تقول أظن العقرب أشد لسعة من الزنبور، أو فإذا هو إياها؟ قال: أقول فإذا فإذا هو هي. فأقبل عليه الجميع، فقالوا: أخطأت ولحنت، فقال يحيى: هذا موضع مشكل، أنتما إماما مصريكما، فمن يحكم بينكما؟ فقال الكسائي وأصحابه: الأعراب الذين على الباب، فأدخل أبو الجراح ومن وجد معه ممن كان الكسائي وأصحابه يحملون عنهم، فقالوا: نقول: (فإذا هو إياها) وانصرف المجلس على أن سيبويه قد أخطأ، وحكموا عليه بذلك، فأعطاه البرامكة وأخذوا له من الرشيد، وبعثوا به إلى بلده، فما لبث بعد هذا إلا يسيرًا حتى مات. ويقال إنه مات كمدًا.
1 / 111
قال علي بن سليمان: وأصحاب سيبويه إلى هذه الغاية لا اختلاف بينهم يقولون: إن الجواب على ما قال سيبوبه: فإذا هو هي: وهذا موضع الرفع، وهو كما قال علي بن سليمان، وذلك أن النصب إنما يكون هو الحال، نحو قولك: خرجت فإذا الناس وقوفًا، وجاز النصب ها هنا، لأن (وقوفًا) نكرة، والحال لا تكون إلا نكرة، فإذا أضمرت بطل أمر الحال، لأن المضمر معرفة، والمعرفة لا تكون حالًا فوجب العدول عن النصب إلى الرفع نحو ما أفتى به سيبويه من أنه يقول: فإذا هو هي، كما تقول: فإذا الناس وقوف.
والوجه الثالث: أن يكون جوابًا للشرط، نحو قوله تعالى: (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ) [الروم: ٣٦] .
و(نَحْنُ) مبتدأ، و(مُسْتَهْزءُونَ) الخبر، وموضع الجملة نصب لـ (قَالُوا)، كما تقول: قلت حقاُ أو باطلًا، و(نَحُنُ) مبنية لمشابهتها الحروف، وفي بنائها على الضمة، أوجه:
أحدها: أنها من ضمائر الرفع، والضمة علامة الرفع.
والثاني: أنها ضمير الجمع، والضمة بعض الواو، والواو تكون علامة للجمع، نحو: قاموا ويقومون. وقال الكسائي: الأصل (نحن) بضم الحاء، فنقلت الضمة إلى النون. وهذا القول ليس عليه دلالة تعضده.
وقال الفراء. بنيت (نحن) على الضم، لأنها تقع على الاثنين والجماعة فقووها بالضمة لدلالتها على معنيين، و(يَعْمَهُونَ) [البقرة: ١٥] في موضع نصب على الحال والعامل فيه (يَمُدُّهُمْ) [البقرة: ١٥] .
* * *
قوله تعالى: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ﴾ [البقرة: ١٧] ، والمثل والمثل والمثيل بمعنى واحد، كما يقال: شبه وشبه وشبيه،
1 / 112
والاستيقاد استفعال من الوقود، والوقود بالضم مصدر وقدت النار وقودًا، والوقود بالفتح الحطب، والنار معروفة، وألفها منقلبة عن واو، وأصل منافع النار خمسة:
الاستضاءة بها، والإنضاج والاصطلاء والتحليل والزجر. والإضاءة: أصله الوضوح.
يقال: ضاءت النار، وأضاءت لغتان، ويقال: جلسوا حوله وحوليه تثنية حول، وحواليه: تثنية حوال وأحواله، وهو جمع.
قال امرؤ القيس:
ألست ترى السمار والناس أحوالي
والذهاب بالشيء كالمرور به، والظلمة معروفة ونقيضها الضياء. والمعنى في الآية أن مثل المنافقين مثل قوم كانوا في ظلمة فأوقدوا نارًا، فلما أضاءت النار ما حولها أطفأها الله وتركهم في ظلمات لا يبصرون، فالظلمة الأولى التي كانوا فيها الكفر، واستيقادهم النار قولهم: (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، فلما أضاءت لهم ما حولهم واهتدوا، خلو إلى شياطينهم، فنافقوا وقالوا إنما نحن مستهزؤون، فسلبهم الله نور الإيمان وتركهم في ظلمات الكفر لا يبصرون.
ثم ضرب لهم مثلًا آخر شبيهاُ بهذا، فقال: (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ) [البقرة: ١٩]، والصيب: المطر، والظلمة: ظلمة الليل، وظلمة السحاب، والرعد دليل على شدة ظلمة الصيب وهوله. أراد: أو مثل قوم في ظلمات ليل ومطر، فضرب الظلمات لكفرهم مثلًا، والبرق لتوحيدهم مثلًا. (أَوْ) ها هنا الإباحة، أي: إن شبهتهم بالمثل الأول كنت مصيبًا، وإن شبهتهم بالمثلين فكذلك أيضًا.
1 / 113