فصل في ذكر جبل هنتاتة
وعملنا على الصعود إلى الجبل المطل عليها، والجارح المرفرف على دراجها مقتصرين على حدود هنتاتة، عنصر الدعوة، وأولياء الدولة المرينية، وحلفاء الطاعة المخصوصين برعي الجوار، والاستماتة من دون الحرمة، وشد عروة الوفاء، وسد الخلّة، واستحقاق لشُّفوف على غيرهم والمزية، إذ كان ذلك أقوى بواعث الوجهة، وأخلص مقاصد الرحلة.
وقدمت بين يدي وصولي إلى مراكش، المخاطبة إلى عميد تلك البقعة، وشاه تلك الرقعة، صدر هذه الحدود القصوى، المتميز بالرجاحة والرأي والسياسة، المتفق فيه على إفاضة العدل، وكف اليد، والتجافي عن مال الجباية، والمستأثر بحمد الجمهور من الرعية، وحب أولي العفاف والخيرية، إلى النُّبْل الذي لا يطيش نَبْلُه، والإدراك الذي لا يُفَلُّ حدُّه، والدهاء الذي لا يُسبَر غوره، والمعروف الذي لا يتجاوز محالَّ الضرورة حكمته، عامر بن محمد بن علي:
تقول ليَ الأظعان والشوق في الحشا ... له الحكم يمضي بين ناه وآمر
إذا جبل التوحيد أصبحت فارعًا ... فخيم قرير العين في دار عامر
وَزُرْ تربها المعصوم إن مزارها ... هو الحجّ يمضي نحوه كل ضامِر
سنلقى بمثوى عامر بن محمد ... ثغور الأماني من ثنايا البشائر
ولله ما تبلوه من سعد وجهة ... ولله ما تلقاه من يٌمن طائر
وتستعمل الأمثال في الدهر منكما ... بخير مَزُور أو بأغبط زائر
لم يكن همي، أبقاك الله، مع فراغ البال، وإسعاف الآمال، ومساعدة الأيام والليال، إذ الشمل جميع، والزمن كله ربيع، والدهر مطيع سميع، إلا زيارتك في جبلك الذي يعصم من الطوفان، ويواصل أمنه بين النوم والأجفان، وأن أرى الأفق الذي طلعت منه الهداية، وكانت إليه العودة ومنه البداية. فلما حُمَّ الواقع) وعجز عن خرق الدولة الأندلسية الراقع (وأصبحت ديار الأندلس وهي البلاقع، وحسنت من استدعائك إياي المواقع، قوي العزم وإن لم يكن ضعيفًا، وعرضت على نفسي السفر بسببك فألفيته خفيفًا، والتمست الإذن حتى لا ترى في قبلة السدادة تحريفًا، واستقبلتك بصدر مشروح، وزنْد العزم مقدوح، والله يحقق السول، ويسهل بمثوى الأماثل المثول، ويهيئ من قبيل هنتاتة القبول بفضله.
فأكرم الوفادة، وأطرأ بين يدي الإمارة، واستدعي من محل سكناه بمراكش إلى دار الكرامة، وشرك في الطعام نبهاء الدولة وعلية الخاصة. وأطرف من استجلاء منزله بقرة العين، انفساح خطة، والتفاف شجرة، وجرية ماء، واستبحار بركة. واستكثر من كل طرفة، ونقل من جلسة إلى جلسة، وحرص على تتميم البر بكل حيلة.
وفي يوم الاثنين المتصل بيوم القدوم، توجهنا إلى الجبل في كنف أصحابه تحت إغراء بره، وفي مركب قرة عينه، فخرجنا نستقبل بين يديه السهل، ونساير الجهة، ونشاهد الآثار، ونتخطى المعاهد، ونَنْشَق النسيم البليل القريب العهد بمادة الثلج وعنصر البرد، ولما بلغنا درج الجبل، وانتحينا طريقه من السفح، وهي تركب ضفة الوادي الملتف بعادي شجر الحور والطَرْفاء وشجر الخلاف والدردار، وأمعنا) و(، وتسمو عن جانبها الجبال الشم، والشعبات التي تزلُّ بها العُصْم، وتفضي دروبه إلى أقوار فسيحة، وأجواء رحيبة، يكتنفها العمران، ويموج بها السنبل.
1 / 1