المباحث العقدية المتعلقة بالكبائر ومرتكبها في الدنيا
المباحث العقدية المتعلقة بالكبائر ومرتكبها في الدنيا
Editorial
الجامعة الاسلامية بالمدينة المنورة
Número de edición
السنة السادسة والثلاثون
Año de publicación
العدد (١٢٣) ١٤٢٤هـ/٢٠٠٤م
Géneros
المقدمة
إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل الله، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم وبعد.
فإن الذنوب أشأم شيء على العبد في دنياه وأخراه، فهي سبب فيما يصيب العبد من البلاء والشر في أمور معاشه وحياته الدنيوية، وسبب في النقص الذي يصيبه في دينه بما ينفتح عليه من مداخل الشيطان، وينغلق من عون الرحمن ومدده ودفعه ﵎، كما أنها سبب في غضب الله ومقته وعقوبته الأخروية وهي أشد وأنكى.
قال تعالى ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ الشورى٣٠، وقال تعالى ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ
يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ النور ٦٣، وقال تعالى ﴿ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ﴾ الروم ١٠، وقال ﴿كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا﴾ الإسراء ٣٨، وقال تعالى ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا﴾ النساء ١٢٣. وغير ذلك من الآيات والنصوص الكثيرة الواردة في هذه المعاني.
والذنوب يترتب عليها عند السلف أحكام عقدية، وغير عقدية في الدنيا والآخرة، فأحببت أن أجمع كلام أهل العلم في الأحكام العقدية المتعلقة بمرتكب الكبائر في الدنيا.
وقد سميته (المباحث العقدية المتعلقة بالكبائر ومرتكبها في الدنيا عند أهل
1 / 55
السنة) . وقسمته إلى مقدمة وفصلين وخاتمة على النحو التالي:
الفصل الأول: في الكبيرة وفيه خمسة مباحث:
المبحث الأول: تعريف الكبيرة.
المبحث الثاني: تقسيم الذنوب.
المبحث الثالث: في ذكربعض النصوص في الكبائر.
المبحث الرابع: عدد الكبائر.
المبحث الخامس: بغض الله ﷿ للذنوب.
الفصل الثاني: في مرتكب الكبيرة وفيه سبعة مباحث:
المبحث الأول: نقص إيمان مرتكب الذنوب.
المبحث الثاني: مسمى مرتكب الكبائر.
المبحث الثالث: في كلام أهل العلم في معنى النصوص التي تنفي الإيمان عن
مرتكب الكبيرة أو تصفه بالكفر أو قال فيه: (ليس منا) ونحوها.
المبحث الرابع: لعن مرتكب الكبيرة.
المبحث الخامس: هجر أهل المعاصي.
المبحث السادس: حكم الخروج على الحاكم الفاسق.
المبحث السابع: في التوبة.
الخاتمة: وفيها أهم النتائج
وقد استخدمت بعض الرموز طلبا للإختصار وهي:
خ، للبخاري. م، لمسلم ت، للترمذي. د، لأبي داود. جه، لابن ماجه. ن، للنسائي.
حم، للمسند.
هذا وأرجو من الله ﷿ التوفيق والقبول، وأن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه
إنه جواد كريم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
1 / 56
باب: الفصل الأول: في الكبيرة
باب الفصل الثاني: المباحث العقدية المتعلقة بمرتكب الكبيرة في الدنيا
المبحث الأول: نقص إيمانه وضعفه
...
الفصل الثاني: المباحث العقدية المتعلقة بمرتكب الكبيرة في الدنيا
لمرتكب الكبيرة مسائل وأحكام تتعلق به، منها ما يكون في الدنيا ومنها ما يكون في الآخرة.
وسنذكر في هذا الفصل ما يتعلق به من الأحكام العقدية الدنيوية عند أهل السنة دون غيرهم من أهل البدع والضلالة وهي:
المبحث الأول: نقص إيمانه وضعفه
مما أجمع عليه السلف أن الإيمان قول واعتقاد وعمل، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.
قال ابن عبد البر ﵀:“أجمع أهل الفقه والحديث على أن الإيمان قول وعمل، ولا عمل إلا بنية، والإيمان عندهم يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية،
والطاعات كلها إيمان إلا ما ذكر عن أبي حنيفة وأصحابه، فأنهم ذهبوا إلى أن الطاعات لا تسمى إيمانًا”١
ويستدل السلف لقولهم هذا بأدلة عديدة من القرآن والسنة منها قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ الأنفال ٢.
٣وقال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ﴾ الفتح ٤.
ومن السنة حديث معاذ بن أنس الجهنى عن أبيه أن النبي ﷺ قال: ”من
_________
١ التمهيد لابن عبد البر (٩/٢٣٨) وانظر في دخول العمل في الأيمان وأدلته مسائل الإيمان للقاضي أبي يعلى ص ١٢٥ شرح الطحاوية ص ٣٧٢، الانتصار في الرد على القدرية (٣/٧٣٧) .
1 / 73
أعطى لله ومنع لله وأبغض لله فقد استكمل إيمانه” ١
وعن أبي سعيد الخدري ﵁ عن النبي ﷺ قال: “من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان” ٢
وعن ابن عمر ﵁ عن النبي ﷺ أنه قال عن النساء: ”ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب منكن، قالت امرأة: يا رسول الله: وما نقصان العقل والدين؟ قال: أما نقصان العقل فشهادة امرأتين تعدل شهادة رجل فهذا نقصان العقل، وتمكث الليالى ما تصلى وتفطر في رمضان فهذا نقصان الدين” ٣
فتدل هذه النصوص على أن الإيمان يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، وعلى هذا وردت النصوص عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم من السلف.
فعن عمير بن حبيب الخطمي ﵁ قال: “الإيمان يزيد وينقص قيل له: وما زيادته، وما نقصانه؟ قال: إذا ذكرنا الله وحمدناه وسبحناه فتلك زيادته، وإذا غفلنا وضيعنا ونسينا فذلك نقصانه” ٤
وعن عمر بن الخطاب ﵁ أنه كان يأخذ بيد الرجل والرجلين من أصحابه فيقول: “قم بنا نزداد إيمانًا”.
وروى نحوه عن معاذ بن جبل، وعبد الله بن رواحه رضي الله عنه٥
وعن أبي الدرداء ﵁ أنه قال: “إن من فقه العبد أن يعلم أيزداد هو أم منتقص، وإن من فقه الرجل أن يعلم نزغات الشيطان أنى تأتيه” ٦
_________
١ أخرجه. حم. (٣/٤٣٨)، ت. صفة القيامة (٤/٦٧٠) وقال: حديث حسن ٢ أخرجه م. (٢/٢١٢) .
٣ أخرجه. م، الإيمان (١/٨٦) .
٤ أخرجه الآجري في الشريعة (١/٢٦١) الإيمان لابن أبي شيبة ص٧.
٥ أخرجه عنهم ابن أبي شيبة في الأيمان ص٣٥.
٦ أخرجه ابن بطة في الإبانة (٢/٨٤٩)
1 / 74
قال أبو زرعة وأبو حاتم الرازيان رحمهما الله تعالى: ”أدركنا العلماء في جميع الأمصار حجازًا وعراقًا وشامًا ويمنًا فكان من مذهبهم: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص”. ١
هذه النصوص تدل على اجماع السلف٢أن الإيمان يزيد وينقص، وزيادته تكون بعمل الصالحات والتقرب بالطاعات، أما نقصانه فيكون بالإخلال بالواجبات أو الوقوع في السيئات والمنكرات.
وقد وردت نصوص في الشرع تبين تأثير الذنوب في إيمان العبد بالإنقاص والأضعاف مثل قوله ﵊: ”لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ... “.
وقوله ﵊: ”والله لا يؤمن قيل: من يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه” ٣
وهي أدلة صريحة في أن إيمان مرتكب الذنوب لا يتساوى مع إيمان من يتقي الله ويجتنب معاصيه.
_________
١ أخرجه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (١/١٧٦) .
٢ يخالف في هذا الخوارج والمعتزلة وكذلك المرجئة من الجهمية والأشعرية والأحناف الذين يزعمون: أن الإيمان شئ واحد لا يزيد ولا ينقص وهو كل لا يتجزأ فإذا ذهب بعضه ذهب كله. فالخوارج والمعتزلة يقولون: الإيمان قول واعتقاد وعمل، ومن أخل بشيء من ذلك زال عنه اسم الإيمان، وهو عند الخوارج كافر، وعند المعتزلة: في منزلة بين المنْزلتين، وعند المرجئة: أن الإيمان هو التصديق أو المعرفة أو القول والتصديق أو القول فقط، وهو شيء واحد، فلو نقص لصار شكًا. والعاصي عندهم مؤمن كامل الإيمان، وهذا كله باطل وخلاف ما دل عليه الكتاب والسنة. انظر مجموع الفتاوى (٧/٥١٠- ٥٢٣) . مسائل الإيمان للقاضي أبي يعلى ص٣٨٢- ٣٨٤. العقيدة النظامية للجويني ص٩٠ تحفة المريد شرح جوهرة التوحيد ص٥١.
٣ سيأتي تخريج هذه الروايات في المبحث الآتي.
1 / 75
المبحث الثاني: مسمى مرتكب الكبائر
عند السلف أن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ولا يخرج العبد بارتكابه لشيء من الكبائر من الإسلام، واختلفوا في مسمى مرتكب الكبيرة إلى قولين:
القول الأول: إن مرتكب الكبيرة لا يستحق اسم مؤمن بإطلاق؛ لأن الإيمان وصف مدح وعد الله عليه الجنة في مثل قوله تعالى ﴿وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ...﴾ التوبة ٧٢.
ومرتكب الكبيرة ليس من أهل هذا الوعد المطلق، وقد نفى عنه الرسول ﷺ الإيمان في أحاديث عديدة كقوله ﷺ: “لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن...” ١.
فهذه الطائفة من السلف يسمونه مؤمنًا ناقص الإيمان أو مسلمًا ٢.
وحكى المروزي عن الإمام أحمد أنه سئل عن قول النبي ﷺ “لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن...” فقال:“من أتى هذه الأربعة أو مثلهن أو فوقهن، فهو مسلم ولا أسميه مؤمنًا” ٣.
وعند هذه الطائفة من السلف أن بين الإسلام والإيمان في إطلاق الشارع فرقًا، فالإسلام مرتبة دون مرتبة الإيمان، فالمسلم مرتبته دون مرتبة المؤمن، وأن المسلم يستحق وصف الإسلام بمجرد نطقه بالشهادتين، أما وصف مؤمن فهو يستحقه بالإتيان بالطاعات وترك المعاصي.
وممن ورد عنه التفريق بين الإسلام والإيمان الزهري ﵀ حيث قال:
_________
١ سيأتي تخريجه ص ٨٣.
٢ انظر: تعظيم قدر الصلاة للمروزي (٢/٥١٢-٥١٧) .
٣ تعظيم قدر الصلاة (٢/٥٢٩) .
1 / 76
“الإسلام الكلمة والإيمان العمل”١
وورد عن حماد بن زيد أنه قال:“الإسلام عام، والإيمان خاص” ٢
وورد عن الإمام أحمد التفريق بينهما، فقد ذكر عنه القاضي أبو يعلى روايات في ذلك منها: أنه قال في رواية حنبل:“الإيمان غير الإسلام” ٣
وقال في رواية صالح:“قال ابن أبي ذئب الإسلام القول، والإيمان العمل، قيل: فما تقول أنت؟ قال: الإسلام غير الإيمان” ٤
_________
١أخرجه. د. في سننه (٢/٢٦٩)، وعبد الله في السنة (ص:٩١)، والمروزي في تعظيم قدر الصلاة (٢/٥٠٧) . والذي يظهر أن مراد الزهري ﵀ أن الإسلام الكلمة، بمعنى أنه يستحق الدخول في الإسلام ويسمى مسلمًا من أتى بالشهادتين، أما الإيمان فلا يستحق الوصف به إلا بالإتيان بالعمل أو يكون قصد بالكلمة
الشهادتين وتوابعهما من الأعمال الظاهرة، انظر: مجموع الفتاوى (٧/٢٥٨)، فتح الباري (١/٧٦) .
٢ أخرجه ابن منده في الإيمان (١/٣١١)، والمروزي في تعظيم قدر الصلاة (٢/٥١٢)، وفسره ابن منده بأن قوله: الإسلام عام أي من ناحية معرفته، فإن الخلق يطلعون عليه، أما الإيمان فهو خاص من ناحية أن معرفته خاصة بالله دون خلقه. والذي يظهر لي أن معنى كلام حماد أن الإسلام عام من ناحية أهله؛ لأن كل من أتى بالشهادتين دخل في الإسلام فيكون مسلمًا، أما الإيمان فهو خاص من ناحية أهله فلا يتحقق إلا بالعمل بالطاعات وترك المنهيات، والله أعلم.
٣ السنة للخلال (٣/٦٠٢) .
٤ السنة للخلال (٣/٦٠٤) وانظر مسائل الإيمان للقاضي أبي يعلى (ص: ٤٢١) .
هذا ما ورد عن السلف ممن يرى الفرق بين مسمى الإسلام والإيمان، ومن العلماء من ذكر وجهًا آخر للتفريق بينهما، وهو أن الإسلام والإيمان بينهما تلازم فهما يجتمعان ويفترقان فحيث قرن بين الإسلام والإيمان في كلام الشارع فيفسر الإسلام بالأعمال الظاهرة والإيمان بالأعمال الباطنة كما في حديث جبريل ﵇، وإذا افترقا دخل كل واحد منهما في الآخر، وذلك كما ورد في حديث وفد عبد القيس، فقد فسر الإيمان بالأعمال الظاهرة، وكما في قوله تعالى ﴿إن الدّين عند الله الإسلام﴾ . آل عمران ١٩. وقد قال بهذا التفريق جمع من العلماء مثل الخطابي في معالم السنن انظره في (٧/٤٩)، والنووي في شرحه على مسلم (١/١٤٨)، والبغوي في شرح السنة (١/١٠)، وشيخ الإسلام في الفتاوى (٧/٣٥٧)، وابن رجب في جامع العلوم والحكم (ص: ٢٥) .
1 / 77
وممن قال بهذا القول وهو التفريق بين الإسلام والإيمان ابن عباس ﵄، والحسن البصري، ومحمد بن سيرين، والزهري، وعبد الرحمن بن مهدي، وابن أبي ذئب، ومالك، وشريك، وحماد بن زيد، والإمام أحمد، وابن جرير، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن كثير، وغيرهم ١.
فهؤلاء يتوجه على قولهم أن الفاسق لا يصح وصفه وتسميته بالإيمان المطلق؛ لأنه أخل بواجباته، واعتبر هؤلاء العلماء وصف الإيمان المطلق وصف مدح لا يستحقه من فسق بارتكابه للمحرمات؛ لهذا كانوا يتحاشون من هذا الوصف عمومًا ويرون الاستثناء فيه، فقد قال رجل عند ابن مسعود ﵁: أنا مؤمن، فقال ابن مسعود: أفأنت من أهل الجنة؟ فقال: أرجو، فقال ابن مسعود:“أفلا وكلت الأولى كما وكلت الأخرى؟ ” ٢.
وفي رواية عنه أن رجلًا قال عنده: أنا مؤمن، فقال عبد الله: فقل:”إني في الجنة، ولكن آمنا بالله وملائكته وكتبه ورسله...” ٣.
_________
١ انظر: السنة للخلال (٣/٦٠٤-٦٠٥)، والسنة لعبد الله (١/٣١١)، وتفسير ابن جرير (٩/٢٦/٨٩)، اعتقاد أهل السنة للالكائي (٤/٨١٢)، الإبانة الصغرى لابن بطة (ص: ١٨٢)، الإيمان لابن منده (١/٣١١)، الفتاوى لشيخ الإسلام (٧/٣٥٩)، تفسير ابن كثير (٤/٤١٩) .
٢ أخرجه أبو عبيد في الإيمان (ص: ٦٧) وهو منقطع بين الحسن وابن مسعود، كما ذكر ذلك الألباني في التعليق.
٣ أخرجه أبو عبيد في الإيمان (ص: ٦٧) وهو على شرط الشيخين كما قال الألباني في التعليق.
1 / 78
ونحو هذا ورد عن إبراهيم النخعي ومحمد بن سيرين وطاووس وغيرهم ١.
القول الثاني: إن مرتكب الكبيرة يسمى مسلمًا، ويسمى مؤمنًا، وإن كان ذلك ليس على الكمال، لأنه لا يخرج من هذا المسمى بسبب ارتكابه لشيء من الكبائر؛ لأن أصل الإيمان معه فهو بالتالي لا يخرج منه إلا بارتكابه لما يناقض أصل الإيمان، فمن دخل في الإيمان والإسلام استحق هذا المسمى وإن لم يستكمله.
قال محمد بن نصر المروزي:“فمن صدق بالله فقد آمن به، ومن آمن بالله فقد خضع لله وقد أسلم لله، ومن صام، وصلى، وقام بفرائض الله، وانتهى عما نهى الله عنه، فقد استكمل الإيمان والإسلام المفترض عليه، ومن ترك من ذلك شيئًا فلن يزول عنه اسم الإيمان ولا الإسلام إلا أنه أنقص من غيره في الإسلام والإيمان من غير نقصان من الإقرار بأن الله وما قال حق لا باطل، وصدق لا كذب، ولكن ينقص من الإيمان الذي هو تعظيم للقدر، خضوع للهيبة والجلال، والطاعة للمصدق به وهو الله ﷿، فمن ذلك يكون النقصان، لا من إقرارهم بأن الله حق وما قاله صدق” ٢.
وقال في موضع آخر:“إن شاربة الخمر والسارقة مؤمنة في الحكم والاسم، لا مؤمنة مستكملة الإيمان، ومستحقة ثواب المؤمنين” ٣.
وقد عزا المروزي هذا القول إلى جمهور أهل السنة والجماعة وأصحاب الحديث ٤.
وهذا القول الذي ذكره المروزي ﵀ ونصره من جواز تسمية
_________
١ انظر: الروايات عنهم في الإيمان لأبي عبيد (ص:٦٧)، والشريعة للآجري (ص:١٣٩) .
٢تعظيم قدر الصلاة (٢/٥٤٣)
٣تعظيم قدر الصلاة (٢/٥٤٢) .
٤المصدر نفسه (٢/٥٢٩) .
1 / 79
مرتكب الكبيرة مؤمنًا يلزم كل من لم ير فرقًا بين مسمى الإسلام والإيمان في الشرع، وإنما يرى أن الإسلام والإيمان شيء واحد.
وعلى هذا القول البخاري صاحب الصحيح وعزاه في الفتح إلى المزني صاحب الشافعي، وإليه ذهب ابن عبد البر، وعزاه إلى جمهور أهل السنة والحديث١.
فهذان القولان مأثوران عن أهل السنة في تسمية مرتكب الكبيرة، وأن منهم من لا يجيز تسميته مؤمنًا وإنما يسميه مسلمًا.
ومنهم من يرى أنه لا يجوز أن ننفي عنه اسم الإيمان؛ لأن الإسلام والإيمان سواء، بل يسمى مؤمنًا ومسلمًا.
والقولان متقاربان جدًا؛ لأن من لا يرى جواز إطلاق اسم الإيمان على الفاسق لا يخرجه من الدّين، بل يرى أن معه إيمان به تصح أعماله، وبه تصح نسبته إلى هذا الدّين، إلا أن إيمانه نقص نقصًا لا يستحق معه إطلاق هذا المسمى عليه، ويجوز عنده أن يقال عنه إنه مؤمن ناقص الإيمان أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته.
ومن يرى أنه يجوز إطلاق اسم الإيمان على مرتكب الكبيرة لا يعتقد أنه على إيمان كامل، بل يرى أنه ناقص الإيمان غير مستكمل له، لكن لا يجوز أن نقول إنه غير مؤمن بإطلاق، وإنما يجوز أن نقول هو غير كامل الإيمان.
فمن هنا يتبين أن الخلاف بين القولين في المسمى؛ لأن كلًا منهما اعتبر أوجهًا شرعية رأى فيها ما يرى أنه الحق.
فأصحاب القول الأول الذين يرون عدم جواز إطلاق اسم الإيمان على مرتكب الكبيرة لاحظوا أن الشرع اعتبر اسم الإيمان اسم تزكية ومدح وثناء، ومرتكب الكبيرة ليس من أهلها.
_________
١انظر: فتح الباري (١/١١٤)، التمهيد لابن عبد البر (٣/٢٢٦) .
1 / 80
أما أصحاب القول الثاني فلاحظوا أن الشارع أثبت هذا المسمى لمن وقع في بعض الكبائر كما في قوله تعالى ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ...﴾ . فسماهم مؤمنين مع وقوع الاقتتال بينهم ١.
وقد أجاب عن ذلك أصحاب القول الأول: بأن هذا الإطلاق إنما هو على اعتبار أنهم مؤمنون في الأحكام والمواريث وليس في الإطلاق العام، وهم يقولون إن مرتكب الكبيرة يسمى مؤمنًا على هذا الاعتبار.
روى الآجري بسنده عن سفيان الثوري أنه قال: “ الناس عندنا مؤمنون في الأحكام والمواريث، ولا ندري كيف هم عند الله ﷿ ونرجو أن نكون كذلك” ٢.
وذكر شيخ الإسلام أن الشالنجي قال: سألت الإمام أحمد عمن قال: أنا مؤمن عند نفسي من طريق الأحكام والمواريث، ولا أعلم ما أنا عند الله، قال: ليس بمرجئ.
قال شيخ الإسلام: وبه قال أبو خيثمة وابن أبي شيبة ٣
قال أبو عبيد معللًا وجه الاستثناء في الإيمان عند السلف: مخافة ما أعلمتكم في الباب الأول من التزكية والاستكمال عند الله، وأما على أحكام الدنيا فإنهم يسمون أهل الملة جميعًا مؤمنين؛ لأن ولايتهم وذبائحهم وشهادتهم ومناكحتهم وجميع سننهم إنما هي على الإيمان ٤.
فمن هذا يتضح أن القولين متقاربان إلا أن القول الأول وهو من يرى عدم جواز إطلاق اسم (مؤمن) على مرتكب الكبيرة أكثر التصاقًا بالنصوص
_________
١ انظر: تعظيم قدر الصلاة (٢/٥٤٣) .
٢ الآجري في الشريعة (ص:١٣٦) .
٣ الفتاوى (٧/٢٥٣) .
٤ الإيمان لأبي عبيد (ص:٦٨) .
1 / 81
وإعمالًا لها، فإن الرسول ﷺ قد نفى الإيمان عن طائفة ممن عملوا السيئات وارتكبوا المحرمات كما في الحديث الصحيح “لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن” ١.
وقوله “لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن عهد له” ٢ وقوله “والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه” ٣.
فمن نفى الإيمان عن مرتكب الكبيرة إنما وافق هذه النصوص التي لا مدفع لها، ومن المعلوم أن نفي الإيمان عن أصحاب هذه الذنوب لا يعني إخراجهم من الإيمان ولا نفي التصديق الذي بقلوبهم، وإنما يعني نفي كماله الذي به يستحقون هذا الإطلاق وأما ما ورد من النصوص، وقد أطلق على أصحابها وصف الإيمان مع ارتكابهم للذنوب مثل قوله تعالى ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ...﴾ الحجرات ٤٩. ونحوها من النصوص.
فوجه هذا أنه سماهم بهذا الاسم الذي يصح إطلاقه عليهم على الاعتبار السابق الذكر عن سفيان والإمام أحمد وغيرهم وهو من طريق الأحكام في الدنيا وأنهم مؤمنون من ناحية المواريث والأحكام لا من ناحية الإطلاق العام، والله أعلم.
_________
١انظر تخريجه ص ٨٣.
٢انظر تخريجه ص ٨٣.
٣انظر تخريجه ص ٨٣.
1 / 82
المبحث الثالث: في أقوال أهل العلم في بيان معنى النصوص التي تنفي الإيمان عن مرتكب الكبيرة
أولًا: النصوص التي تنفي الإيمان عن مرتكب بعض الذنوب
...
المبحث الثالث: في أقوال أهل العلم في بيان معنى النصوص التي تنفي الإيمان عن مرتكب الكبيرة، أو تصفه بالكفر، أو قال فيه “ليس منا” ونحوها
مما يجمع عليه السلف أن مرتكب الكبيرة لا يكفر بسبب ارتكابه لشيء من الكبائر، وقد وردت نصوص في الشرع قد يفهم منها غير المطلع على كلام أهل العلم خلاف ذلك، فنبين إن شاء الله كلام أهل العلم في معناها.
أولًا: النصوص التي تنفي الإيمان عن مرتكب بعض الذنوب:
وردت نصوص في الشرع نفي فيها الإيمان عن مرتكبي بعض الذنوب.
وذلك مثل حديث أبي هريرة ﵁ عن النبي ﷺ قال: ”لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشرب وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن” ١.
وعن شريح الخزاعي ﵁ أن النبي ﷺ قال: ”والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قيل: من يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه” ٢.
وعن أنس بن مالك ﵁ عن النبي ﷺ قال: “لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له” ٣.
_________
١ أخرجه خ. المظالم ب. النهي بغير إذن صاحبه (٢/٢٧٩)، م. في الإيمان ٠١/٧٦) .
٢ أخرجه خ. الأدب. ب. أثم من لا يؤمن جاره بوائقه انظره مع الفتح (١٠/٤٥٧) . حم. (٢/٢٨٨) .
٣ أخرجه حم. (٣/١٣٥، ١٥٤)، والبغوى في شرح السنة (١/٧٥) وحسنة، وابن أبي شيبة في الإيمان ص٥، وحسنة الألباني في التعليق على الإيمان لابن أبي شيبة، والمروزي في تعظيم قدر الصلاة (١/٤٩٥) ..
1 / 83
وعن أبي هريرة ﵁ عن النبي ﷺ أنه قال: “إذا زنى العبد خرج منه الإيمان، فكان فوق رأسه كالظلة، فإذا خرج من ذلك العمل عاد إليه الإيمان” ١.
وقد اختلف العلماء في معنى هذه الأحاديث إلى أقوال عدة، وذلك بعد أن أجمعوا على أن المعاصي لا يخرج صاحبها من الدين ولا يكون بها كافرًا خلافًا للخوارج والمعتزلة ٢.
القول الأول: أن المراد بذلك أن الإيمان يرتفع عنه حال المعصية، ثم إذا أقلع وتاب رجع إليه إيمانه، لحديث أبي هريرة ﵁ السابق.
وممن قال بهذا ابن عباس. فقد روي عنه أنه كان يقول لغلمانه: ”من أراد منكم الباءة زوجناه لا يزني منكم زان إلا نزع منه نور الإيمان فإن شاء أن يرده عليه رده عليه، وإن شاء أن يمنعه منعه” ٣.
وبه قال أبو هريرة أيضًا فقد روي عنه أنه قال: “الإيمان نزه فمن زنا فارقه الإيمان فإن لام نفسه وراجع رجع إليه الإيمان” ٤.
وبه قال الإمام أحمد، فقد روي الخلال أن حنبل قال: “قلت لأبي عبد الله: إذا أصاب الرجل ذنبًا من زنا أو سرق يزايله إيمانه؟ قال: هو ناقص الإيمان فخلع منه الإيمان كما يخلع الرجل قميصه فإذا تاب وراجع عاد إليه إيمانه” ٥
_________
١ أخرجه. د. في السنة. ب. الإرجاء (٢/٢٧٠) والحاكم في المستدرك الإيمان (١/٢٢) وقال: صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي، وصحح الحديث السيوطي. انظر فيض القدير (١/٣٦٧)، وكذلك الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (٢/٢٢) .
٢ سبقت الإشارة إلى قول الخوارج والمعتزلة في الهامش.
٣ أخرجه الآجري في الشريعة ص١١٤، وابن أبي شيبة في الإيمان ص٣٢، وابن بطة في الكبير (٢/٧١٥)، والمروزي في تعظيم قدر الصلاة (١/٥٠٤) .
٤ الآجري في الشريعة ص١١٥، السنة لعبد الله ص٩١.
٥ السنة للخلال (٣/٦٠٧) وانظر مسائل الإيمان للقاضي أبي يعلى ص٣١٩.
1 / 84
وبهذا قال عطاء وطاووس والحسن ﵏ ١.
ومن قال بهذا القول لا يعني أن إيمان العاصي زال عنه بالكلية بحيث خرج من الدين بالكلية فهذا ليس قولًا لأهل السنة، وإنما هو قول الخوارج والمعتزلة، وإنما المقصود زال عنه نوره الذي يدفعه للخير ويحجزه عن الشّرّ، وبقي له من الإيمان اسم لا يدفع عنه العقوبة يوم القيامة.
قال شيخ الإسلام في حديث أبي هريرة: قوله “خرج منه الإيمان فكان فوق رأسه كالظلة” دليل على أن الإيمان لا يفارقه بالكلية، فإن الظلة تظل صاحبها وهي متعلقة ومرتبطة به نوع ارتباط - ثم بين ﵀، أن التصديق الذي يفرق بين المسلم والكافر، والذي يمنع الخلود في النار وترجى به الشفاعة والمغفرة ويستحق به المناكحة والموارثة لم ينعدم من مرتكب الكبيرة، إنما زال عنه الإيمان الذي ينال به النجاة من العذاب وتكفير السيئات وكرامة الله ومثوبته ويكون به محمودًا مرضيًا، وبين أيضًا، أن الزاني ونحوه لفرط شهوته، أو لغفلته عن التحريم، وعظمة الرب، غمر مقتضى إيمانه، ومنعه من التأثير وذلك مثل عقل السكران، فإن عقل السكران مستور بسبب سكره فلو قال قائل: السكران ليس بعاقل، فإذا صحا عاد عقله إليه كان صادقًا، مع العلم بأنه ليس بمنزلة البهيمة إذ أن عقل السكران مستور وعقل البهيمة معدوم، فكذلك معنى الحديث أصل إيمانه موجود، ولكن الإيمان الذي يمنع ارتكاب المنكرات ويبلغ أعلى الدرجات في الجنة معدوم٢.
القول الثاني: إنه بارتكابه للكبائر يخرج من الإيمان إلى الإسلام، وذلك أن الإيمان مرتبة عالية والإسلام دونها، فارتكابه للذنوب ووقوعه في القبائح يتنافى
_________
١ التمهيد لابن عبد البر (٩/٢٥٥) .
٢ انظر مجموع الفتاوى (٧/ ٦٧٠-٦٧٦) وانظر تعظيم قدر الصلاة للمروزي (٢/٥٧٣) .
1 / 85
مع الرتبة العالية في الدين، وهي الإيمان، فيخرج منها إلى المرتبة التي دونها وهي الإسلام، ولا يعني ذلك أنه لم يبق في قلبه شيء من الإيمان، وإنما معه إيمان ينجيه من الخلود في النار، وقد قال بهذا أبو جعفر الباقر وهو قول للإمام أحمد ١.
القول الثالث: أن المنفي في هذه الأحاديث هو الكمال الواجب الذي يعاقب تاركه، قال أبو عبيد القاسم بن السلام ﵀: “فكلما خالطت هذه المعاصي هذا الإيمان المنعوت تعبيرها ٢ قيل ليس هذا من الشرائط التي أخذها الله على المؤمنين، ولا الأمارات التي يعرف بها أنه الإيمان، فنفت عنهم حينئذ حقيقته ولم يزل عنهم اسمه”. فإن قال قائل كيف يجوز أن يقال: ليس بمؤمن، واسم الإيمان غير زائل عنه؟ قيل: هذا كلام العرب المستفيض عندنا غير المستنكر في إزالة العمل عن عامله إذا كان عمله على غير حقيقته، ألا ترى أنهم يقولون للصانع إذا كان ليس بمحكم لعمله: ما صنعت شيئًا ولا عملت عملًا، وإنما وقع معناها هاهنا على نفي التجويد لا على الصنعة نفسها، فهو عندهم عامل بالاسم وغير عامل في الإتقان ٣.
وهو قول للإمام أحمد، وأخذ به القاضي أبو يعلى، ورجحه بقوة المروزي وقال به النووي، وابن عبد البر، وشيخ الإسلام ابن تيمية، والسفاريني ٤.
_________
١ انظر سنن الترمذي (٥/١٦)، المروزي في تعظيم قدر الصلاة (٢/٥٠٦)، الآجري في الشريعة ص١١٣، مسائل الإيمان للقاضي أبي يعلى (ص٣٢٠)، الفتاوى (٧/٢٤٤) .
٢ يقصد بذلك الآيات التي وصفت المؤمنين بالصفات الكاملة مثل قوله تعالى ﴿قد أفلح المؤمنون...﴾، ﴿إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم ...﴾ ونحوها.
٣ الإيمان لأبي عبيد ص٩٠. وانظر نحوه عند المروزي في تعظيم قدر الصلاة (٢/٤٠٩- ٥١٦) .
٤ مسائل الإيمان للقاضي أبي يعلى ص٣١٩، شرح النووي على مسلم (٢/٤١-٤٢) . مجموع الفتاوى (٧/٥٢٤)، الانتصار في الرد على المعتزلة (٣/٧٠١)، التمهيد لابن عبد البر (٩/٢٤٣)، لوامع الأنوار البهية (١/٤١٦)، تعظيم قدر الصلاة للمروزي (٢/٥٣٥) .
1 / 86
القول الرابع: إن أحاديث الوعيد كلها تمر كما جاءت ولا تفسر، وأنها على التأكيد والتشديد.
وممن روي عنه ذلك الزهري حيث سئل عن قول النبي ﷺ “ليس منا من لطم الخدود” وما أشبهه، فأطرق ساعة، ثم رفع رأسه فقال: “من الله ﷿ العلم وعلى الرسول البلاغ وعلينا التسليم”. ١
وهو قول للإمام أحمد، وعزا شيخ الإسلام إلى عامة علماء السلف أنهم يقرون هذه الأحاديث ويمرونها كما جاءت، ويكرهون أن تتأول تأويلات تخرجها عن مقصود الرسول ﷺ، وكذلك عزا ابن حجر إلى كثير من السلف إطلاق لفظ الأخبار في الوعيد، وعدم التعرض لتأويله ليكون أبلغ في الزجر. ٢
القول الخامس: قول من يرى أن أحاديث الوعيد عمومًا خرجت مخرج التغليظ والمبالغة في الزجر عن المعاصي، وعزا هذا القول ابن حجر إلى الطيبي، وقد استنكر هذا القول أبو عبيد وقال عنه: أفظع ما تأول على رسول الله ﷺ وأصحابه، أن جعلوا الخبر عن الله وعن دينه وعيدًا لا حقيقة له، وهذا يؤول إلى إبطال العقاب، لأنه إن أمكن ذلك في واحد منها كان ممكنًا في العقوبات كلها٣.
القول السادس: إن الحديث ليس خبرًا، وإنما هو نهي فيكون معناه “لا يزني الزاني وهو مؤمن ... “، أي لا ينبغي للمؤمن أن يزني تنزيهًا للإيمان وتعظيمًا له، وقال بهذا الضحاك وكذلك الخطابي، وقد رده العلماء: بأن الحديث صريح
_________
١ السنة للخلال (٣/٥٧٩)، مجموع الفتاوى (٧/٦٧٤) .
٢ انظر مسائل الإيمان للقاضي أبي يعلى ص٣١٧، مجموع الفتاوى (٧/٦٧٤)، فتح الباري (١٣/٢٤) .
٣ الإيمان لأبي عبيد ص٨٨. الانتصار في الرد على القدرية (٣/٧٠١)، فتح الباري (١٢/٦٠) .
1 / 87
في الخبر وليس النهي١.
القول السابع: إن المراد به مستحل الزنا وشرب الخمر، وأن المنفي في ذلك هو الإيمان بالكلية ٢.
فهذه أشهر الأقوال في معنى هذه الأحاديث، وظاهر منها أن الأقوال الأربعة الأولى متقاربة، وهي تؤكد أن الكبيرة والذنب عمومًا يؤثر على الإيمان، إما بنفي كماله، أو نوره وما يكون به خضوع لهيبة الله وجلاله، أو بإخراجه من دائرة أهل الإيمان إلى مرتبة أدنى في الدين وهي الإسلام، وإما أن يترك اللفظ الشرعي كما ورد ولا يؤول ليكون أبلغ في الزجر، مع اعتقاد أن مرتكب الكبيرة لا يكفر بذلك. وهي فيما أرى أرجح الأقوال في معنى هذه الأحاديث والله أعلم.
وبهذا يتبين أن الكبائر قد أزالت عن مرتكبها ذلك المسمى الذي هو الإيمان، وذلك الوصف الذي هو المؤمن، الذي وعد الله أهله بالنجاة من النيران والفوز بالجنان ورضى الرحمن في مثل قوله تعالى ﴿وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ التوبة٧٢. وتكون الكبائر جالبة للإنسان خسارة عظمى وبلية كبرى نسأل الله العافية.
_________
١ انظر تعظيم قدر الصلاة للمروزي (٢/٦٤١) ومعالم السنن للخطابي بهامش سنن أبي داود (٧/٥٤) .
٢ تعظيم قدر الصلاة (٢/٦٤٤) .
ثانيًا: النصوص التي ورد فيها وصف مرتكبي بعض الذنوب بالكفر: كما وردت أحاديث تنفي عن مرتكب الكبيرة الإيمان، فقد وردت أحاديث تصف مرتكبي بعض الذنوب بالكفر، فمن ذلك حديث ابن عمر ﵁ قال، قال رسول الله ﷺ: ” أيما امرئ قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما ” ٣. _________ ٣ أخرجه م. الإيمان (١/٧٩) .
ثانيًا: النصوص التي ورد فيها وصف مرتكبي بعض الذنوب بالكفر: كما وردت أحاديث تنفي عن مرتكب الكبيرة الإيمان، فقد وردت أحاديث تصف مرتكبي بعض الذنوب بالكفر، فمن ذلك حديث ابن عمر ﵁ قال، قال رسول الله ﷺ: ” أيما امرئ قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما ” ٣. _________ ٣ أخرجه م. الإيمان (١/٧٩) .
1 / 88
وعن أبي هريرة ﵁ أنه سمع رسول لله ﷺ يقول: " لا ترغبوا عن آبائكم فمن رغي عن أبيه فهو كافر" ١.
وعن ابن مسعود ﵁ أن النبي ﷺ قال: ”سباب المسلم فسوق وقتاله كفر” ٢.
وعن أبي هريرة ﵁ عن النبي ﷺ أنه قال: “ اثنتان في الناس هما بهم كفر الطعن في النسب والنياحة على الميت” ٣.
وعن منصور بن عبد الرحمن عن الشعبي عن جرير أنه سمعه يقول: ” أيما عبد أبق من مواليه فقد كفر حتى يرجع إليهم”. قال منصور: قد والله روى عن النبي ﷺ، ولكني أكره أن يروى عني هاهنا بالبصرة ٤.
فهذه الأحاديث ونحوها عند أهل السنة لا تدل على أن مرتكب ما ذكر فيها من ذنوب يكون كافرًا خارجًا من الإسلام، وذلك أن الله ﵎ قد وصف بعض مرتكبي الذنوب بالإيمان، ولم يكفرهم، كما قال تعالى: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا﴾ الحجرات٩. فسماهم مؤمنين مع وجود الاقتتال.
وكذلك فإن الله تعالى قد أوجب الجلد على القاذف، والقطع على السارق، وجلد رسول الله ﷺ الزاني البكر وشارب الخمر وغير ذلك، فلو كان
_________
١ أخرجه خ. الفرائض ب- من ادعى إلى غير أبيه (١٢/٥٥)، م. الإيمان (١/٨٠) .
٢ أخرجه خ. الإيمان ب -خوف المؤمن من أن يحبط عمله (١/ ١٣٥)، م. الإيمان (١/٨١)
٣ م. الإيمان (١/٨١) .
٤ أخرجه م. الإيمان (١/٨٣) د. الحدود. ب- الحكم فيمن ارتد رقم ٤٣٦٠. قال النووي: معنى قوله (قد والله روى عن النبي ﷺ ولكني أكره أن يروى ...) فإني أكره أن أصرح برفعه في لفظ روايتي فيشيع عني في البصرة، التي هي مملوءة من المعتزلة والخوارج، الذين يقولون بتخليد أهل المعاصي في النار، والخوارج يزيدون على التخليد، فيحكمون بكفره، ولهم شبهه في التخليد بظاهر هذا الحديث. شرح النووي على مسلم (٢/٢٤٧) .
1 / 89
هؤلاء كفارًا بارتكابهم للكبائر لوجب قتلهم لقوله ﷺ “ لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة ” ١.
وأجمع الصحابة على عدم كفر مرتكبي الذنوب، فقد روى أبو عبيد عن أبي سفيان أنه قال: “جاورت مع جابر بن عبد الله بمكة ستة أشهر فسأله رجل هل كنتم تسمون أحدًا من أهل القبلة كافرًا؟ فقال: معاذ الله! قال: فهل تسمونه مشركًا؟ قال: لا” ٢.
فلهذا صرح أصحاب كتب العقائد بذلك في عقائدهم فقال الطحاوي ﵀: ”ولا نكفر أحدًا من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله” ٣.
وقال الحكمي ﵀:
ولا نكفر بالمعاصي مؤمنًا إلا مع استحلاله لما جنى٤.
وقد أجاب العلماء عن معنى الكفر الوارد في الأحاديث السابقة وشبهها بعدة أجوبة:
الجواب الأول: أن الفعل الوارد فيه لفظ الكفر إنما ذكر هكذا لأنه يؤول
_________
١ أخرجه م. القسامة (٣/١٣٠٢) من حديث عبد الله بن مسعود ﵁.
٢ الإيمان لأبي عبيد ص٩٨ قال الألباني في التعليق: إسناده صحيح على شرط مسلم وعزاه في مجمع الزوائد (١/١٠٧) إلى أبي يعلى والطبراني وقال: رجاله رجال الصحيح، وانظر التمهيد لابن عبد البر (٩/٢٥١) .
٣ شرح العقيدة الطحاوية ص٣١٦. وقوله (بذنب ما لم يستحله) بين شارح الطحاوية ﵀ أن قول الطحاوي ﵀ ليس على إطلاقه، لأن من الذنوب ما يكون كفرًا، كالسجود للصنم، والاستهزاء بالله، والسحر، وترك الصلاة عند كثير من السلف. فالصواب أن يقال: ولا نكفر أحدًا من أهل القبلة بكل ذنب.
٤ معارج القبول (٢/٣٠٠) .
1 / 90