إن حبس المصرية السالفة تفريط وحرية الغربيين الآن إفراط، ولا أجد أصلح ما نقتبس منه إلا حالة المرأة التركية الحاضرة، فإنها وسط بين الطرفين، ولم تخرج عما يجيزه الإسلام، وهي مع ذلك مثال الجد والاحتشام.
بلغني أن بعض كبرائنا (أريد كبراء الوظائف) يعلمون بناتهم الرقص الإفرنجي والتمثيل، وهما أمران أحلاهما مر، وأعدهما تطرفا ممقوتا واستماتة في تقليد الغربيين؛ لأن العادة يجب أن لا تغير إلا إذا كانت مضرة، والأنماط الغربية لا يقيمها قوم بينهم إلا إذا رأوا ضرورتها وصلاحيتها، فأي صلاح لنا من مخاصرة الرجال والنساء ورقصهم معا؟! أو ظهور بناتنا أمام الرائين (المتفرجين) بصدور عارية يمثلن أدوار الحب والخلاعة على (المرسح)، إن ذلك مناف للدين الإسلامي هادم للفضيلة، مدخل لضار العادات بيننا، فعلينا أن نحاربه ما استطعنا ونظهر احتقارنا لمن تفعله من المسلمات القليلات اللاتي إذا شجعناهن بسكوتنا فإنهن لا يلبثن أن يعدين الغير منه.
وعلى ذكر العادات والحجاب أذكركن بمسألة تئن منها السعادة وتكاد تندثر في بيوتنا، تلك هي مسألة الخطبة والزواج، يرى أكثر عقلاء الأمة أن لا بد للخطيبين من الاجتماع والتكلم قبل الزواج، وهو رأي سديد لم يكن النبي
صلى الله عليه وسلم
والصحابة يفعلون غيره، وهو متبع عند جميع الأمم بأسرها والأمة المصرية أيضا إلا في طبقة واحدة هي طبقة أهل المدن، إذا ائتلف العروسان عندنا فهو من محاسن الاتفاق (الصدف)، وكيف يمكن الجمع بين شخصين لم ير أحدهما الآخر ولم يختبره على أن يقضيا العمر معا؟ إن إحدانا إذا اتفق أن رأت عرضا في إحدى زياراتها سيدة استثقلت ريحها فإنها لا تصبر على مجالستها فضلا عن النظر إليها، وتسرع بالتملص منها، فكيف تصبر على مضض الحياة إذا استثقلت أيضا بعلها، وهي لم يمكنها التصبر على ثقل الغريبة لحظة واحدة في غير بيتها؟! يشير قوم باتباع خطة الغربيين من وجوب معاشرة الخطيبين زمنا ليتمكن كلاهما من استطلاع طبع صاحبه، ولكني أصرح باستهجان هذه العادة وأعتقد أنها مبنية على وهم لا على أساس متين؛ إذ من نتائج معاشرة المتشابهين الألفة ومن الألفة الحب، وإذا أحب الإنسان شخصا لم ير عيوبه، ولم يمكنه فحص أخلاقه، فيتزوج العروسان حينذاك على حب باطل وعلى غير هدى، فلا يلبثان أن يتنازعا وتذهب ريحهما، إنما الطريقة التي أود عرضها على مسامعكن هي أن يتراءى العروسان ويتكلما بعد خطبة النساء المتبعة وقبل العقد، ويجب أن لا تظهر العروس إلا مع أحد محارمها وتكون في أبسط لباسها، قد يعترض على هذا الاقتراح بأن اجتماعا واحدا أو اثنين أو أكثر لا يكفي لأن يقف الواحد على أخلاق الآخر، ولكنها على أي حال كافية لأن يشعر الواحد باجتذاب دم الآخر له أو لا، على أن من صدقت فراسته يمكنه تبين الأخلاق من العينين، ومن الحركات والسكنات، فيبين إن كان صاحبه متصنعا أو طائشا وغير ذلك، أما معرفة ماضي العروسين وبقية أحوالهما فيجب أن يسأل عنها المعارف والجيران والخدم وغيرهم، وخوفا من أن يتخذ الشبان فاسدو الأخلاق تلك الطريقة ذريعة لرؤية بنات الناس من غير قصد الزواج يجب على الولي أن يتحرى سلوك الخاطب، ويتبين الجد من كلامه قبل السماح له برؤية ابنته أو موكلته، ربما تستصعبن قبول هذه الفكرة والعمل بها، ولكن كل شيء يخيل لنا صعبا عند الابتداء فيه وإذا مارسناه سهل وهان، على أننا إذا كنا نعتقد فساد طريقتنا القديمة، ونتألم منها ونحجم عن الإقدام على ما نراه مفيدا لنا مقللا لحوادث الشقاء في زواجنا، فما أشبه يومنا بالأمس وما أشد إثمنا وما أبعدنا عن قول الشاعر:
تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد
حياة لنفسي مثل أن أتقدما
وما الفائدة من تعلمنا إذا كنا لا نستطيع تغيير عادة مضرة لا هي من الدين، ولا من الحكمة؟! وقد رأينا رأي العين سعادتنا العائلية مزعزعة تكاد تقتلعها صرصر تلك العادة العائلية، وما مثلنا في ذلك إلا كمثل رجل غرق أو أشرف على التلف فلما بصر بقطعة خشب يمكنه النجاة بالتعلق بها أبى لئلا يكون بها مسمار فيجرح إصبعه فابتلعته اللجة، وقد كان يمكنه النجاة لو لم يقدر الخوف من المسمار، وما أدراه أن ظنه وتخوفه في محلهما؟! ولماذا نأبى أن يرانا خاطب بحجة أننا ربما لا نعجبه؟! أوليست مضرة رغبتنا عنه أو رغبته عنا أخف بكثير من تعاقدنا على الزواج قبل الرؤية، والإنسان لا يفعله في شراء دابة فكيف يفعله في اختيار قرين؟!
إن امتناعنا عن أن يرانا الخاطبون صرف كثير منهم إلى الأوروبيات، فيتحمل أحدهم أن يتزوج من خادمة أو عاملة يعتقد أنه سيهنأ معها على أن يقترن ببنت الباشا أو البك المخبأة في (علبة البخت)، ولتعذرني صديقاتي الغربيات على هذا القول، فإني لا أريد به إهانة لهن، فإنهن يعرفن قبلنا أن امرأة ذات حسب مرغوبة في شبان قومها لا تتركهم إلى فتى من غير دينها وجنسها، فضلا عن أن كل بلاد لها مدنيتها الخاصة بها وتقرير أحوال مدنيتنا لا يقتضي أننا نعيب مدنية الآخرين، قسما بالله لو جاء البارون رتشيلد أو المستر كارينجي إلى ابنة كاتب عندنا مرتبه أربعة جنيهات شهريا لما رد بغير الخيبة، فإذا لم نعمل على تدارك هذا الخلل في مجتمعنا لا نلبث أن يحتلنا نساء الغرب أيضا، فنقع في احتلالين؛ احتلال الرجال واحتلال النساء، وثانيهما شر من أولهما؛ لأن الأول إذا كان حصل على غير رضانا فإن الثاني جلبناه بأيدينا والنساء شديدات التعلق بالأقارب، فلا يبعد أن تلم كل زوجة منهن أخاها وأباها وابن خالتها وصاحبها حولها فيسدون ما بقي لرجالنا من موارد الرزق، فنخرج وإياهم من بلدنا بخفي حنين، وإن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد.
بعض رجالنا يفضلون عنا الأوروبيات لتدبيرهن، حقيقة إن الفقيرة منهن ترتدي بلباس نظيف مرتب، ويرى بيتها على قلة أثاثه نظيفا مرتبا، وطعامها لذيذا متنوعا، وأولادها مؤدبين أصحاء، ومع ذلك نفقاتها قليلة. نرى كل يوم نساء ضباط الإنكليز ماشيات في الطريق بلباسهن التيل الأبيض البسيط وأولادهن لابسين القبعات الجميلة والأحذية البيضاء ومنظرهم يأخذ باللب، لا يقاربهم في شكلهم عندنا إلا أولاد (الذوات) الذين تخدمهم المربيات (الدادات) أما سائر أطفالنا فهم في حالة يرثى لها من الإهمال، ولكن هل تدبر من تتزوج منهن مصريا أمر زوجها كما كانت تفعل لو كان زوجها أوروبيا؟ كلا، والحس يؤيد ما أقول؛ فإن أغلب رجالنا الذين تزوجوا منهن يئنون ويصرخون من تبذيرهن واتباعهن أهواءهن، فالمرأة الغربية تعتقد أنها من جنس أرقى من المصري، فإذا تزوجته ظلت رئيسة له يعمل بإشارتها وحسبت أنه ملزم بالإنفاق على ما تشتهي وجلبه لها حتى ولو كان في الصين، فهي مدبرة مع الغربي مسرفة مع المصري. وإذن، ضاعت أفضليتها من هذا القبيل، وبعضهم يدعي أنه يفضلها لأنه يمكنها الخروج معه في نزهة وروحاته وغدواته، ولا أظن الرجل يحب أن ترافقه زوجته وتلزمه لزوم الظل فإنه داعية للملل، على أنه لو كان هذا الرأي صحيحا لما تأخر أكثرنا عن تنفيذه وأنا أول من تفعله، ولا أجد للمرأة الغربية التي تقبل الزواج من مصري ما يفوقها علينا إلا أمرا واحدا، لا أرانا نحسنه لأننا لم نمارسه ولا أريد أن نمارسه، ذلك أنها ماهرة في اجتذاب القلوب وفي نصب الشباك للرجال، فإذا صادت بحركاتها وغنة صوتها مصريا فليعلم أنها دربت على ذلك في عشرين غريبا قبله؛ فهل يقبل وفيه غيرة الشرقيين وأنفتهم أن تطعمه طبيخا، حقيقة، لذيذا ولكنها أنضجته على نار غيره، ثم انتبذه من قبله خلق كثير؟!
Página desconocida