ويجب أن تقرأ يوميات هؤلاء الرجال لتمثل ما لاقوه، ومقابلته بالحوادث الخفيفة التي تقع في مبارياتنا من خلال الغابة البكر والسهوب حيث يعد عدم إصابة الهدف ونوبة الحمى مسألة حياة وموت، وإذا جسمت هذه العوارض تجسيما لا حد له تجلت لك جهود أولئك وآلامهم، وما أدراك ماذا كان البحث عن منابع نهر في ذلك العرض؟ أتظن أنه كان مقرونا - كما يقع اليوم - بالمال والسلاح والزاد والهدايا وأدوات القياس تبينا لطريق ورسما لها بعد دراسة جميع الكتب الخاصة درسا عميقا؟
كان ذلك يتطلب في كل صباح جمع الرائد لرجاله، وتوزيعه الأثقال بين مائة من الحملة والحيوانات وتأكده من أمر جميع السيور
12
وسهره على جلب الماء ودلالته على الطريق، وتحريكه الزنجي الذي يخيفه أقل الأشياء وإغراءه على السير أو إكراهه عليه. وكان على الرائد أن يظهر رئيسا لمائة رجل بسيط تقوم إطاعته على نظرة الأبيض وحركته، وألا يبدو تعبا مع الحرارة أو الزوبعة أو أذى الحشرات، وأن يعنى بالمرضى، وأن يدفن الموتى، وأن يحتفظ بالقيادة ولو مرض، وأن يمسك الفارين من الحملة ويجازيهم، وأن يفاوض الرؤساء الخبثاء من أجل الدخن
13
ويلطف طمعهم.
وكان عليه أن يرضى بالأسر، وأن يعرف كيف يخلص نفسه، وأن يكافح النهر الزاخر ظهرا، وأن يصارع الأنمار في المعسكر مساء، وكان على الرائد عند عبوره النهر وإضاعته صناديق الرصاص التي تتوقف عليها حياته أن يبعث من الرسل من يبحثون له عن أبيض انتهى إليه صيته، فلعله ينجده، وكان عليه أن يعيش سنوات بلا نساء أو أن يقتصر على زنجيات وأن يظل محروما كل نبأ عن وطنه.
تلك هي أحوال أولئك الرجال الذين كان عليهم أن يكافحوا الإنسان والحيوان والعناصر دوما، أولئك الرجال الذين هوجموا وعدوا من الآلهة في الوقت نفسه، أولئك الرحال الذين جابوا في شهور وسنوات غابا وسهوبا لم يدخلها أحد قلبهم، فكان عليهم أن يبصروا كل شيء، وأن يتداركوا كل شيء باستمرار، فالمنازعات والآلام وسعادة البلاد المتوحشة وخيبة الأمل في العودة إلى الوطن أمور اقتضاها ذلك النهر العجيب الذي ضحوا بحياتهم في سبيل اكتشافه.
الفصل العاشر
يهيمن نجم الصباح ذو النور اللطيف على مرآة بحيرة ألبرت الضاربة إلى صفرة حيث تضيق فتتحول إلى النيل، وتكون الأنهار التي تجري من بحيرة إلى أخرى أكثر إمتاعا في أثناء انقباضها مما في أثناء اتساعها الزاهي الذي يعشي عيون الجمهور، ونيل فيكتورية - ويأتي من المساقط الكبرى - لا يجوب غير طرف قصير من بحيرة ألبرت، وهو يجر بكل ما في الشباب من قوة مياها غزيرة، فيتضاعف نشاطه فيسرع متوجها إلى الشمال.
Página desconocida