ويزيد النيل عرضا مقدارا فمقدارا، وتلمع الأشرعة البيض فوقه شيئا فشيئا، وتكدس البراميل والصناديق في المحطات، وتنتظر الباخرة ألوف أكياس القطن، وتخبر عوامة لماعة بقهر النهر، ويظهر جسر من فوره بعد عطفة خفيفة، ويظهر قطار فوق الجسر، وهذا هو أول جسر، وهذا هو أول قطار، وهما يعبران النهر منذ منبعه الذي يبعد ثلاثة آلاف كيلومتر من الجنوب في خط الاستواء، وهنالك منازل من ألواح حديد مغضنة وسقف من حجر وصفارات الشرطة وطقطقة العجل ورائحة الزيت وعرق العامل وحركة تذكرنا بمرافئ البحر المتوسط، وهنالك - في كوستي - ينبئ كل شيء بإمبراطورية استعمارية جديدة، وذلك مع مشاهدتنا عمود المئذنة الأولى الأهيف الرائع بدلا من برج جرس الكنيسة.
وهنا - وفي كوستي وبعد كوستي - يقع فردوس جديد للطيور.
وهنا - في منتصف مجرى النهر - ترى الجنة الثانية للطيور. وأما الجنة الأولى ففي منبعه. وأما الجنة الثالثة ففي مصبه، وهنا يختلط الغرباء من الطيور بأهل البلاد من الطيور أكثر مما في أية جهة أخرى، وذلك لما تجده الطيور المهاجرة من الشمال من مسكن شتوي كبير بين الخرطوم وكوستي، وترى فوق الأرض والماء ما لا يحصى من ذوات الريش الأسود والأبيض، وتستر ذوات الأجنحة الساكنة على مدى البصر الضفاف الخضر والأجرف
5
الصفر وصغرى الجزر وصغير الخلج
6
ومخاوض النهر ومعابره، وتملأ الآذان والعيون بما يصدر عنها من أصوات الاستغاثة وحفيف الأجنحة، ويحول صغار الطير عن كباره الأسماع والأبصار كما تحولهما الفرقة الكثيرة الأفراد بآلاتها ذوات الأوتار عن صوت الصفر.
7
ولا يفد أولئك الضيوف جياعا فارين من الشمال، ولو كان نزوحهم عن برد وجوع لوجدوا الدفء والطعام فيما هو أدنى من هنا، وما كانوا ليغادروا المكان الحار الذي يعيشون فيه، ولم يظل السنونو المصري، الذي يبني وكره في يناير، حيث هو على حين يطير السنونو الشمالي بعيدا وبعيدا حتى خط الاستواء؟ ومن البط بمصر الدنيا أنواع تهاجر حتى بحيرة فيكتورية، حتى خط الاستواء، بالغة في طيرانها ما يعدل سدس استدارة الكرة الأرضية، ومن البجع
8
Página desconocida