مثل الدوّارين ونصاب المبضع والمِلْزَم ونحوها (انظر الفهرس)، ممَّا يغوص أهل العربية في بطون المطوّلات والأمهات لالتقاطه، حرصًا على المرادفات التي يُستغنى بها عن بعض الألفاظ الأعجمية التي حلّت محلّ السليم في الاستعمال. والذين يقيسون الكتب بمقدار بما فيها من تسلية، يجدون كذلك في هذا الكتاب كثيرًا من الأخبار الطريفة، مثل أخبار قلائي السمك وصُنَّاع الزلابية، وحيل الجرائحية والكحّالين، ومثل أنواع الأطعمة التي لم يستطع الناشر أن يتذوّقها أو يصيبها بتعريفه من مراجعه الكثيرة.
على أنّ المزية الكبرى هذا الكتابه، هي ما فيه من أخبار عن حقيقة النظم الإسلامية وخصائص المجتمع الإسلامي، فهذا منصب الحسبة - وهو منصب قام بمصر قياما متّصلا منذ العصور الوسطى إلى زمن محمد على الكبير - قد هيمن متولّيه على أكثر من أربعين ناحية من نواحي الحياة اليومية، حيث شملت ولايته "أن يتردّد إلى مجالس القضاة والحكام، ويمنعهم من الجلوس في الجامع والمسجد للحكم بين الناس" (ص ١١٣)، وأن "يقصد مجالس الأمراء الولاة والأمراء، ويأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر، ويعظهم ويذكّرهم، ويأمرهم بالشفقة على الرعية" (ص ١١٥)؛ وهذا وذالك فضلا عن مراقبة الخبازين والأساكفة، والأطباء والمؤدّبين - حتى السقائين والغسالين. فهل معنى هذا أنّ المجتمع الإسلامي كان في غير حاجة لوازع القانون، بحيث أمكن الجمع بين كثير من جهات الضبط والربط والإدارة في يدٍ واحدة؟ أم معنى هذا أنّ روّاد السوق من المنتجين والمستهلكين كانوا عددًا ضئيلا بالنسبة إلى بقية السكان الذين لم ينعموا يبيع أو شراء إلا في النادر، بحيث استطاع المحتسب أن يسيطر في اليوم الواحد - بمساعدة عيونه وغلمانه وأعوانه - على ما تقوم به عدة إدارات وزارية في العصر الحاضر؟ ثم أسألُ أخيرًا عن سرّ قيام المحتسب بمراقبة كلّ ما جاء بالمتن هنا من نواحي الحياة اليومية، على حين عدم اختصاصه بمراقبة عمل السكر، واستخراج عسل النحل، وأحوال القيان، وشئون المدارس (وهذه غير الكتاتيب طبعًا). هذه أسئلة يوحي بها المتن إلى القارئ باديَ القراءة في هذا الكتاب، ولا إخال المتوفّر على البحث في المجتمع الإسلامي إلا واجدًا جملةً أخرى من الأسئلة.
المقدمة / 5