تصدير لكتاب نهاية الرتبة في طلب الحسبة للشيزري
يُخيَّل إليّ أنَّ التاريخ الاجتماعي، وهو طورٌ لا ريب جديد في مدارج البحث التاريخي، سيصبح عما قريب هو النوع الوحيد الذي تصحّ تسميته تاريخًا عند الإطلاق؛ وسيتعين على المؤرخين آنذاك في المستقبل أن يسمّوا ما عدا هذا النوع من الأبحاث التاريخية بأسماء مركبة، فيقولون التاريخ السياسي، والتاريخ الدستوري، والتاريخ الاقتصادي، والتاريخ الحربي، وهَلُمَّ جرّا. ولست أرتجل هذه الفكرة حبًا في الطلوع برأي غير مألوف، كما أني لست ألقى القول جزافًا رغبة في التفرّد بجديد؛ فالتاريخ عنده فيلسوف المؤرخين ابن خلدون بحثٌ "في أحوال العمران والتمدين، وما يعرض فيه للاجتماع الإنساني من العوارض الذاتية .... ". والتاريخ الاجتماعي في صورته الحاضرة، وإنْ اقتصر على التعريف بطرق الحياة عند الفرد والجماعة، وعلى شرح وسائل الكسب والمعيشة اليومية، ووصفِ المجتمع في تقدّمه وتأخّره، إنما يوضّح في الواقع آثار الملوك في ممالكهم، وينوّه بالرؤساء والزعماء السياسيين وقادة الفكر في عصورهم المختلفة؛ وهو يفسّر كذلك أسرار قيام الدول وسقوطها، وتعاقبَ الملوك وتوارثَ العروش، واشتعال الحروب وخمودها، وانعقاد المؤامرات وانصرامها، لأنّ واحدًا من هذه الأشياء لا يمكن أن يتأتى إلا نتيجة لما بالمجتمع من عوامل ومؤثرات ظاهرة وباطنة. ذلك أنّ الدولة التي تستطيع النموّ والتوسّع - اقتصاديا أو حربيًا - لا بدّ أن تستمد استطاعتها هذه من مجتمع قادر على النموّ والتوسّع، دون أن يفقد ذلك المجتمع شخصيته وخصبه العقلي؛ كما أن الدولة التي تبدو عاجزة قاصرة بالقياس إلى غيرها من الدول، لابدّ أن يكون قصورها وعجزها أثرًا لما بالمجتمع نفسه من نقص مادي أو روحيّ، وهكذا.
وكتاب "نهاية الرتبة في طلب الحسبة" للشيزري، الذي تخرجه لجنة التأليف والترجمة والنشر هذا العام، نبع من منابع التعريف بأحوال المجتمع الإسلامي عامة - والشرق الأدنى خاصة - في العصور الوسطى، وهو لذلك مورد من أقرب الموارد الصافية التي سيغترف
المقدمة / 3