ومما أوجب التشبيه قيام الحوادث بذاته سبحانه وقد ذهبت الكرامية إلى جواز ذلك ومن مذهبهم إنما يحدث من المحدثات فإنما يحدث بإحداث الباري سبحانه والأحداث عبارة عن صفات تحدث في ذاته من إرادة لتخصيص الفعل بالوجود ومن أقوال مرتبة من حروف مثل قوله كن وأما سائر الأقوال كالأخبار عن الأمور الماضية والآتية والكتب المنزلة على الرسل عليهم السلام والقصص والوعد والوعيد والأحكام والأوامر والنواهي والتسمعات للمسموعات والتبصرات للمبصرات فتحدث في ذاته بقدرته الأزلية وليست هي من الأحداث في شيء وعلى طريقة إنما الأحداث في الخلق على مذهب أكثرهم قول وإرادة والقول هما صورتان هما حرفان وعلى طريقة محمد بن الهيصم الأحداث إرادة وإيثار وذلك مشروط بالقول شرعا وجوز بعضهم تعلق أحداث واحد بمحدثين إذا كانا من جنس واحد وأكثرهم على أن لكل محدث أحداث فيحدث في ذاته لكل محدث خمس صفات إرادة وكاف ونون وتسمع وتبصر وقد أثبتوا مشية قديمة تتعلق بالحادث والمحدث والأحداث والخلق ثم قالوا هذه الحوادث لا تصير صفات لله تعالى وإنما هو خالق بخالقيته لا بخلق مريد بإراديته لا بإرادة قائل بقائليته وهي واجبة البقاء ويستحيل عدمها بعد وجودها في ذاتها.
وللمتكلمين عليه طريقان في الكلام أحدهما البرهان والثاني المناقضة في الإلزام.
أما البرهان فنقول لو قامت الحوادث بذات الباري سبحانه وتعالى لاتصف بها بعد أن لم يتصف ولو اتصف لتغير والتغير دليل الحدوث إذ لا بد من مغير وتحقيق المقدمة الأولى أن معنى قيام الأعراض بمحالها كونها أوصافا لها كالعلم إذا قام بجوهر وصف الجوهر بأنه عالم وكذلك سائر المعاني والأعراض فليس ذلك كالوصف بكون الباري تعالى خالقا صانعا على مذهب من لم يفرق بين الخلق والمخلوق فإن المخلوق لا يقوم بذات الخالق والخلق قائم بذاته تعالى عندكم فيجب أن يكون وصفا له وكذلك يقال أراد فهو مريد بإرادة وقال فهو قائل بقول وإذا تحقق كونه وصفا له بعد أن لم يكن موصوفا به فقد تحقق التغير والتغير خروج شيء إلى غير ما كان عليه ولا يشترط فيه بطلان صفة وتجدد صفة فإنه إذا كان خاليا من صفات ثم اعتراه صفات فقد تغير عما كان عليه فليس للخصم اعتراض على هذه الطريقة إلا منع الاتصاف أو منع التغير وقد أثبتناهما ولكنه وضع لنفسه اصطلاحا في أحكام المعاني القائمة بالغير وميز بين حكم العلم والقدرة وهي العالمية والقادرية والمريدية وبين حكم الحركة والسكون القائمين بالجوهر وهو المتحركية والساكنية فإن كان هذا التميز غير مقبول عقلا فإن اتصاف المحال بالأوصاف الحادثة واتصاف الذات بالأوصاف من حيث أنها صفات وموصوفات ليس تختلف ولا تأثير للقدم والحدوث فيها أصلا فإنه إن كان الوصف راجعا إلى القول واللسان فلا يختلف الحال بين وصف ووصف وإن كان الوصف راجعا إلى حقيقة في الموصوف يعبر عنها لسان الواصف فلا يختلف الحال بين حقيقة وحقيقة والمعنى إذا قام بذات أو محل صار وصفا وصفة لها ورجع حكمه إليه بالضرورة.
برهان آخر أوضح مما قد سبق وهو أن كل حادث يحتاج إلى محدث من حيث أنه كان في نفسه وباعتبار ذاته جائز الوجود والعدم فلما ترجح جانب الوجود على العدم احتاج إلى مرجح بالضرورة ثم ذلك المرجح إن كان حادثا احتاج إلى مرجح ثم يتسلسل القول فيه إلى ما لانهاية له وجهة الاحتياج لا يختلف الحال فيها بين حادث في ذاته سبحانه وتعالى وبين محدث مباين ذاته فإنه إنما احتاج بجهة تردده بين طرفي جواز الوجود والعدم لا بجهة التباين وغير التباين وهذا قاطع لا اعتراض عليه.
ونقول إن تصور وجود حادث لا بإحداث فإما أن يقال يحدث ذلك الحادث بنفسه أو بقدرته أو بمشيئته قديمة.
فإن قيل يحدث بنفسه فقد باهتوا العقل الصريح بضرورة حكمه بأن ما لم يكن فكان احتاج إلى محدث مكون.
فإن قيل أحدث بقدرة ومشيئة فقد ناقضوا قضية العقل فإن ذلك الحادث إذا جاز أن يحدث بالقدرة فلم لا يجوز أن يحدث المحدثات كلها بقدرته ومشيئته إذ لا فرق في نظر العقل بين الحادث والمحدث من حيث أنه لم يكن فكان.
Página 39