الفصل الأول
أصل المعرفة
العلم المرح، الفقرة 110
لم يتولد عن العقل خلال الأزمان الهائلة الماضية سوى الأخطاء، ومن هذه الأخطاء ما ثبت نفعه وقدرته على حفظ النوع؛ إذ استطاع من اهتدى إليه أو تلقاه بالميراث، أن يحرز في نضاله من أجل ذاته ومن أجل ذريته مزيدا من النجاح؛ ومن قبيل هذه المعتقدات الباطلة، التي ظلت تتوارث حتى كادت في نهاية الأمر أن تعد كامنة في ماهية النوع الإنساني، الاعتقاد بأن ثمت أشياء ثابتة، وبأن ثمت أشياء متماثلة، وبأن ثمت أشياء، وجواهر، وأجساما، وبأن الشيء يكون على النحو الذي يتبدى عليه، وبأن لنا إرادة حرة، وبأن ما هو خير بالنسبة إلي هو خير في ذاته ولذاته.
ولم يظهر من ينكر مثل هذه المعتقدات أو يشك فيها إلا في وقت متأخر جدا؛ أعني أن الحقيقة لم تظهر إلا متأخرة جدا، بوصفها أضعف صور المعرفة وأقلها أثرا. وعندئذ، وضح للمرء أنه لا يستطيع أن يحياها؛ إذ إن الكائن العضوي فينا قد تلاءم مع ضدها، وكل الوظائف العليا لهذا الكائن العضوي، كالإدراك الحسي وسائر أنواع الإدراك بوجه عام، إنما مورست من خلال هذه الأخطاء الأساسية القديمة التي سرت فيها. بل إن هذه المبادئ قد غدت هي ذاتها المعايير التي يقاس بها ما هو «حقيقي» وما هو «غير حقيقي» في المعرفة؛ حتى تغلغلت في أعمق مجالات المنطق الخالص.
وعلى ذلك «فقوة» المعرفة لا تكون في مدى حقيقتها، بل في قدمها، ومدى تغلغلها فينا، وطبيعتها بوصفها شرطا من شروط الحياة. وحيثما بدت الحياة والمعرفة في تعارض، لم ينشب أي صراع جدي، فهنا يعد الإنكار والشك ضربا من الجنون. أما أولئك المفكرون الذين شذوا عن هذه القاعدة، كالإيليين، الذين أكدوا برغم ذلك ما في الأخطاء الطبيعية من أضداد، وثبتوها، فقد اعتقدوا أن من الممكن أيضا أن «نحيا» هذا التضاد؛ ومن هنا ابتدعوا شخصية الحكيم، بوصفه ذلك الذي يتصف بالثبات، واللاشخصية، وشمول الأفق، ويكون واحدا وكلا في الآن نفسه، وتتوافر لديه قدرة خاصة على هذه المعرفة المعكوسة. وهكذا كانوا يعتقدون أن معرفتهم هي في الوقت نفسه «مبدأ الحياة». على أنه كان يتعين عليهم، لكي يتسنى لهم أن يؤكدوا كل ذلك، أن «يخدعوا» أنفسهم في موقفهم الخاص؛ أعني أنه كان يتعين عليهم أن ينسبوا إلى أنفسهم اللاشخصية والثبات الذي لا يعرف تحولا، وأن يسيئوا فهم ماهية العارف، وينكروا أهمية الغرائز في المعرفة، وبالإجمال، أن يتصوروا العقل على أنه فاعلية كاملة الحرية، نابعة عن ذاتها فحسب. ونسوا أنهم ما وصلوا إلى مبادئهم هذه إلا بمناقضة ما هو شائع، أو بدافع الرغبة في السكينة، الاستحواذ أو السيطرة. على أن التطور الأعماق الذي سارت فيه نزعات الشك الأمينة قد جعل وجود مثل هؤلاء الناس محالا في نهاية الأمر، فقد تبين أن حياتهم وأحكامهم تعتمد بدورها على الغرائز المتأصلة والأخطاء الأساسية القديمة التي تكمن في كل كائن مدرك. ولقد كانت مثل هذه النزعة الأعمق، التي تتصف بالأمانة والشك، تظهر حيثما يبدو مبدآن متعارضان قابلين للانطباق على الحياة، ما دام كل منهما يتفق والأخطاء الأساسية؛ أعني أنها كانت تظهر حيثما أمكن أن يثار الجدال حول وجود قدر أعظم أو أقل من النفع للحياة، وكذلك حيثما تبين أن ثمت قضايا جديدة، هي حقا غير نافعة للحياة، ولكنها على الأقل ليست ضارة بها؛ أعني أنها كانت من إنتاج ميل غريزي إلى اللهو العقلي، وفيها من البراءة والطرافة ما في سائر مظاهر اللهو. وبالتدريج امتلأ الذهن الإنساني بمثل هذه الأحكام والمعتقدات، وثار في هذا الخليط فوران، وصراع، ونزوع إلى القوة، ولم يكن النفع واللذة هما وحدهما اللذان تدخلا في هذا الصراع من أجل «الحقائق»، بل تدخلت فيه كل أنواع الغرائز، وأصبح الصراع العقلي انشغالا، وحماسة، ورسالة، وواجبا، وكرامة، وانتهى الأمر بالمعرفة وبالسعي وراء الحقيقة إلى أن يصبح حاجة ضمن سائر الحاجات. ومنذ ذلك الحين لم يعد الإيمان والاقتناع وحدهما «قوة». بل غدا البحث، والإنكار، والريبة، والتناقض، «قوة» بدورها، وانتظمت في خدمة المعرفة كل الغرائز «الشريرة»، واستغلتها هذه لصالحها، واكتسبت تلك الغرائز مكانة النزعات المشروعة، المبجلة، المفيدة، وأصبح لها أخيرا مظهر «الخير»، وبراءته.
وهكذا أصبحت المعرفة قطعة من الحياة ذاتها، ولما كانت هي ذاتها حياة، فقد غدت قوة دائمة النمو حتى انتهى الأمر إلى تصادم المعارف وتلك الأخطاء الأساسية القديمة، ما دامت كل منهما حياة، وكل منهما قوة، وكل منهما تتمثل في الإنسان عينه؛ فالمفكر هو الآن ذلك الكائن الذي يتصارع فيه لأول مرة ذلك الميل إلى الحقيقة مع تلك الأخطاء التي تحفظ الحياة، بعد أن «اتضح» أن الميل إلى الحقيقة هو ذاته ميل حافظ للحياة. والحق أن كل أمر آخر ليغدو، بالقياس إلى أهمية هذا الصراع، غير ذي بال، فهنا يثار السؤال الأخير عن شرط الحياة، وهنا تبذل المحاولة الأولى للإجابة عن هذا السؤال عن طريق التجربة. فإلى أي حد تحتمل الحقيقة أن تتمثل؟ ذلك هو السؤال، وتلك هي التجربة.
URSPRUNG DER ERKENNTNISS
Die fröhliche Wissenschaft. † 110
Der Intellekt hat ungehueure Zeitstrecken hindurch Nichts als Irrthümer erzeugt; einige davon ergaben sich als nützlich und arterhaltend: wer auf sie stiess oder sie verebt bekam, kampfte seinen Kampf für sich und seinen Nachwuchs mit grosserem Glücke. Solche irrthümliche Glaubenssätze, die immer weiter ererbt und endlich fast zum menschlichen Art und Grundlbestand wurden, sind zum beispeil diese: dass es dauernde Dinge gebe, dass es gleiche Dinge gebe, dass es Dinge, Stoffe, Körper gebe, dass ein Ding sei, als was es erscheine, dass unser Wollen frei sei, dass was für mich gut ist, auch an und für.
Página desconocida