وإذا كنا في كل هذه الآراء لم نصادف بعد عودا أبديا تتماثل فيه كل التفاصيل الدقيقة للعالم، فلا شك في أن الفكرة قد ظهرت بحذافيرها لأول مرة لدى الفيثاغوريين. فهناك شواهد تقطع بأنهم رأوا الزمان يعود كما سار من قبل، فتتكرر كل حوادث العالم مثلما تتكرر فصول السنة بعد أن تتم دورتها.
ومن العجيب أن نيتشه، وهو دارس متعمق لتاريخ الفلسفة، وبخاصة فلسفة اليونان، قد نسب إلى نفسه أنه كان أول القائلين بهذه الفكرة؛ أعني أول من نادى بالعود الأبدي، فهل كان نيتشه كاذبا في هذا الزعم الذي صرح به في كتابه «هو ذا الرجل»؟ إنه كان يعلم ولا شك أن من المفكرين اليونانيين من قالوا بالعود الأبدي، وقد صرح في رسالته عن «نفع التاريخ ومضاره للحياة»
18
أن الفيثاغوريين قالوا بفكرة العود الأبدي. فكيف نوفق بين هذين الأمرين؟ في وسعنا أن نجد لهذه الظاهرة الغريبة تعليلات مختلفة، تبنى كلها على استبعاد فكرة الكذب أو الافتقار إلى الأمانة العلمية عن نيتشه: (1)
ففي هذه الظاهرة دليل آخر على مدى تأثره بالتفكير اليوناني، إلى حد أن أصبحت مبادئ هذا التفكير في هوية مع مبادئ تفكيره هو، حتى استحال عليه في آخر الأمر أن يميز بين ما يأتي هو به، وما يتلقاه عن اليونان من أفكار، ومرة أخرى يظهر تداخل المحتوى الفكري لذهن نيتشه في حياته، حتى يبدو التراث العقلي الذي استوعبه إنتاجا خاصا لذهنه، يفخر به ويعده أعظم ما «أبدعه» عقله! (2)
وقد يكون لتوسع نيتشه في بحث الفكرة أثره في اعتقاده بأنه هو أول من كشفها، فقد كشف عن نتائج هامة للقول بالعود الأيدي، واحتلت الفكرة من فلسفته الأخيرة موقع الصدارة، بينما اقتصرت الفلسفات اليونانية التي قالت بها على وجوه محدودة منها، ولم تستخلص منها أية نتيجة أخلاقية ذات شأن، أو تجعل منها نقطة بداية لعقيدة جديدة؛ فالعود الأبدي لم يكن عند فلاسفة اليونان إلا نظرية ميتافيزيقية فحسب، ولم يحاول أحد منهم أن يستخلص دلالته العميقة، أو يجعل منه مركزا لفهم شامل للعالم، من الناحيتين الأخلاقية والدينية في آن واحد. (3)
كذلك كان لطريقة ظهور هذه الفكرة عند نيتشه أثرها الكبير في اعتقاده بأنه أول من قال بها، فقد عرفها من قبل فكرة معتادة من الأفكار التي يحفل بها تاريخ الفلسفة، ولم تترك لديه عندئذ اهتماما كبيرا، ولكنه اهتدى إليها فجأة في وقت متأخر، وقد اكتسبت صفات جديدة كل الجدة. وفي هذا الشكل الجديد لم يكن من الغريب أن يقول إنه أول من توصل إليها؛ فقد هبطت عليه الفكرة في لحظة مباغتة، فطغت على كل ما في ذهنه، وكل ذلك خلال نزهة جبلية له في إيطاليا، على بعد ستة آلاف قدم «من الناس والزمان»، في أغسطس عام 1881؛ أي في المرحلة الناضجة من مراحل فلسفته، «في ذلك اليوم كنت أجتاز الغابة على طول بحيرة سلفابلانا، وبالقرب من كتلة صخرية هائلة برزت على شكل هرمي، وعلى مقربة من سورلي، وقفت، وهناك خطرت لي الفكرة»؛ فالصورة التي يرسمها نيتشه لظهور فكرة العود الأبدي لديه لا تدع مجالا للشك في أن دلالة الفكرة عنده كانت تختلف تماما عن ذلك الصدى الذي تركته في نفسه دراساته لمظاهرها السابقة عند اليونانيين.
ومنذ ذلك الحين توجت فكرة العود الأبدي فلسفته، واحتلت المكانة الرئيسية فيها، وأخذ يربط بينها وبين نظرياته في الأخلاق ونقده الديني، واستلهمها كثيرا من قصائده الغنائية في كتابه «زرادشت». بل إن الثعبان الذي كان يصاحب زرادشت أينما حل، كان يرمز إلى الأبدية في دورانها والتفافها وعودها إلى حيث بدأت (بينما كان النسر يرمز إلى الفكرة الرئيسية الأخرى، فكرة إرادة القوة) ... «سأعود مع هذه الشمس، وهذه الأرض، وهذا النسر، وهذا الثعبان؛ لا إلى حياة جديدة، أو حياة أفضل، أو حياة تقرب من هذه، سأعود أبدا إلى نفس هذه الحياة، في كل صغيرة وكبيرة منها، لكي أدعو مرة أخرى إلى العود الأبدي لكل الأشياء.»
19
ولقد كان في ذهن نيتشه مشروع ضخم يرمي إلى أن يكرس عشر سنوات من حياته لدراسة العلوم الطبيعية، لا لشيء إلا ليثبت فكرة العود الأبدي إثباتا علميا متينا؛ غير أن اعتلال صحته لم يمكنه من تحقيق ذلك المشروع . ومع ذلك فقد عمل جاهدا على أن يجد لفكرته هذه دعامة علمية، فلا تعود مجرد فرض ميتافيزيقي كما كانت عند اليونان.
Página desconocida