الفصل السادس
الدين والعود الأبدي
لم يكن نيتشه يعترف بعقيدة من العقائد الشائعة، لا صراحة ولا ضمنا. وكل محاولة لكشف نوع من التأثر الخفي بالدين في تفكيره، كتلك التي قام بها ياسبرز في كتابه عن «نيتشه والمسيحية» هي محاولة باطلة من أساسها. وليس لنا أن نتقيد بما يقوله البعض من وجود روح دينية كامنة لدى نيتشه، مبعثها ذلك الأصل الديني القديم الذي ترجع إليه أسرته من طرفيها. فكل تأثير لهذا الأصل كان تأثيرا سلبيا، بمعنى أنه مكنه من أن يتعمق فهم الروح الدينية ليوجه إليها أعنف النقد فيما بعد. فآراؤه في هذا المجال صريحة كل الصراحة، ومن أكبر الأخطاء أن نشبه نقده الديني بنقد آخر مبعثه الرغبة في العلو بالعقيدة الشائعة وتنقيتها من الشوائب، مثل نقد كيركجورد؛ فالإيمان هو القوة المحركة للذهن الناقد في حالة كيركجورد، أما في حالة نيتشه فلا مجال للتوفيق بين ذهنه وبين الروح الدينية على الإطلاق.
ونقد نيتشه ينصب أولا على فكرة العقيدة بوجه عام؛ فالروح الدينية في رأيه تفتقر إلى كل فهم للقوانين الطبيعية، وما هي إلا امتداد للتفسير البدائي، الذي كان يفهم كل شيء من خلال السحر والخرافة؛ فلا شيء في نظر هذه الروح يحدث «طبيعيا»،
1
وإنما تتحكم إرادة واعية في كل الحوادث، وتصبغها بصبغة الخير والشر، وكلما عجزت عن فهم ظاهرة ما، أرجعتها إلى فعل هذه الإرادة الواعية. وكما كانت العقلية البدائية تملأ الكون بالقوى الخفية التي تتسبب في خلق الحوادث بطريقة إرادية، فكذلك تفسر العقلية الدينية حوادث الكون تفسيرا مماثلا، سواء تعددت في نظرها تلك القوى الخفية أم توحدت. وإذا حدث ما يناقض فعل القوى الخيرة التي تتحكم في الكون نسب ذلك إلى قوى أخرى، هي «الشيطان»، وأغفل كل تعليل طبيعي للبشر. وهنا يسارع نيتشه فيؤكد «أن قطرة من الدم تزيد أو تنقص في المخ قد تسبب لحياتنا من الشقاء والألم ما يجعلنا نقاسي أكثر مما قاسى بروميثيوس من عقابه؛ غير أن أخطر ما في الأمر هو ألا ندرك أن تلك القطرة هي السبب، بل نعزو ذلك إلى الشيطان، أو الخطيئة.»
2
وهكذا يفهم نيتشه العقلية الدينية على أنها نقيض العقلية العلمية؛ فالأولى تفسر كل شيء «طبيعيا»؛ أي على نحو مستمد من منطق الحوادث ذاتها، لا من تشبيه حوادث الطبيعة بما يجري داخل الذات الإنسانية الواعية.
وبجانب ذلك التعليل الموضوعي لطبيعة العقلية الدينية، نصادف عند نيتشه تعليلا نفسيا لها؛ فالمتدين يؤمن بالوحي؛ أعني بأن ثمت أفكارا تهبط إليه من مصدر يعلو عليه، بحيث لا يكون ذهنه إلا أداة تتلقى هذه الأفكار سلبيا فحسب، ويرى نيتشه أن تلك هي المشكلة النفسية الكبرى في الدين، «فكيف يتسنى للمرء أن ينظر إلى آرائه هو عن الأشياء، على أنها وحي؟ تلك هي مشكلة أصل الأديان.»
3
Página desconocida