وأخيرا، فأمامنا فكرة أساسية أخرى يمكن أن نتوسل بها في التقريب بين نيتشه وبين الوجوديين؛ تلك هي فكرة «موت الإله» عند نيتشه؛ فهيدجر
Heidegger
يفسر هذه الفكرة، في وجهها السلبي، بأنها لا تنصب على الإله المسيحي، ولا على آلهة الأديان بوجه عام، بل إن المقصود بها هو «عالم ما فوق المحسوس»، وعالم الميتافيزيقا والمثل بوجه عام.
7
فهو في عبارته المشهورة «إن الله قد مات» لا يعبر عن موقفه الشخصي في الإلحاد فحسب، بل يعبر عن اعتقاده بأن العالم الآخر، بكل صوره الفلسفية، قد فقد دعامته وانهار من أساسه؛ فتلك الفكرة إذن مرتبطة بموقفه من الفلسفات التقليدية الارتباط، وهي تمهد تمهيدا مباشرا لرفض الميتافيزيقا القديمة، بحيث لا يتبقى أمام الفكر إلا البحث في القيم، وتنتقل الفلسفة إلى البحث في الذات، وفيما له قيمة بالنسبة إليها، وتلك ولا شك هي ذاتها نقطة بداية كل فلسفة وجودية.
بل لقد فهمت هذه الفكرة على نحو يقرب بين نيتشه وبين الوجودية تقريبا «إيجابيا»، لا سلبيا فحسب، فقيل إنها تعبر - رغم ما يبدو في ظاهرها من نفي لكل حقيقة عليا - عن سعي نيتشه إلى «التعالي»
Transcendance ، وبينما تبحث الأديان عن التعالي فيما يتجاوز الإنسان، ويبحث عنه كيركجورد في شخصية «المصلوب»، فإن نيتشه يريد أن يحقق هذا التعالي ذاته، ولكن عن طريق الإنسان، فلم يكن نيتشه بهدف من فكرة «موت الإله» إلا إلى إفساح الطريق أمام الإنسان، حتى يمكنه أن يحقق كل ما تتسع له جهوده. أما التجاء كيركجورد إلى الدين، فهو أمر يستطيع نيتشه تفسيره؛ فمن الناس من يلجأ إلى الدين لأنه سئم غيره من الناس، ورأى حياته عاجزة، فسعى إلى ما هو أعلى منه. وهو في هذا يقول: «إن العنصر الديني من أخطاء الطبائع العليا التي تعذبها صورة الإنسان المنفرة.» ونيتشه، وإن كان ينفر بدوره من الصورة الحالية للإنسان، فإنه لا يريد أن يكون ذلك النفور من أجل أية حقيقة عليا، بل يريد أن يتجاوز الإنسان ذاته بذاته فحسب. فهو ينظر إلى فكرة الله على أنها تمثل الحد النهائي الذي لا تستطيع قدرة الإنسان الخالقة أن تتعداه؛ فهي إذن عقبة ينبغي إزالتها، وذلك هو معنى كلمته المشهورة «لو كان هناك إله، فكيف كنت أطيق ألا أكون إلها.» ففي رأيه أن بين الله والإنسان في الخلق تعارضا، ولا بد لكي يتسع الطريق أمام قوة الإنسان الخالقة من أن تزاح كل العقبات من طريقه.
في كل هذا رأينا تفكير نيتشه يقترب - إذا فهم على نحو معين - من بعض المبادئ العامة للفلسفة الوجودية. على أن هذا التقارب إذا كان يرتبط بتفسير خاص لتفكير نيتشه الذي يقبل عديدا من التفسيرات. فليس من شك في أنه لن يكون حاسما.
ولعلنا قد لاحظنا أن المبادئ التي يشترك فيها نيتشه مع الفلسفة الوجودية «عامة» إلى أقصى حد؛ فهي أوسع نطاقا من أن تكون صفات مميزة للفلسفة الوجودية على التخصيص؛ ففكرة تجدد الوجود الإنساني وعدم ثبات ماهيته، وما يرتبط بها من دعوة إلى علاء الإنسان بنفسه وتجاوزه لذاته على الدوام، هذه الفكرة ليست على الإطلاق وفقا على فلاسفة الوجودية، بل إنها حظ مشترك بين كل الفلسفات الدينامية التي تدعو إلى الحركة وتنبذ الثبات. ونستطيع أن نقول إن عدم ثبات الماهية الإنسانية هو المقدمة الأولى التي تفترضها مقدما كل فلسفة تعتقد بالتطور، وكل مذهب يؤمن بفاعلية التاريخ. حقا إن المسالك تتشعب بهذه الفلسفات والمذاهب فيما بعد تشعبا كبيرا، غير أنها كلها لا تستطيع أن تخطو خطوة واحدة إلى الأمام لو لم تكن تفترض مقدما قابلية الماهية الإنسانية للتحول والتغير. فتلك إذن فكرة لا تختص بها الفلسفة الوجودية وحدها، بل إن الوجودية ليست إلا مظهرا متأخرا، متميزا بطابع فردي خاص، لهذا الاتجاه العام نحو الحركية والتاريخية في الفلسفة.
ولقد كان لنيتشه من العلم موقف لا شك في أنه يميزه عن مختلف التيارات الوجودية تمييزا أساسيا. فمن الواضح أنه كان يتحمس للعلم ويؤمن به إيمانا عميقا. حقا إن فهمه لمنهج العلم ورسالته كان متأثرا بالحالة العلمية السائدة في عصره، بل بالحدود الضيقة التي أمكنه هو ذاته أن يستوعب فيها علوم عصره، ولكنه على أية حال كان يحمل في نفسه للعلم تقديرا حقيقيا، وتلك صفة لا تجد لها في الفلسفة الوجودية نظيرا؛ فالفيلسوف الوجودي قد يتخذ مظهر العطف على العلم، والتقدير له، ولكنه في واقع الأمر يعمل - عن وعي أو دون قصد - على زعزعة الثقة في العلم، وعلى إثبات قصوره عن استيعاب أهم مجالات الحياة البشرية؛ ذلك لأن الوجودي يؤكد دائما أن للعلم حدودا لا يتعداها، وهذه حقيقة معترف بها من الجميع؛ غير أن الفارق بين المؤمن بالعلم وغير المؤمن به، أن الأول يعترف بهذه الحقيقة ويعبر في الوقت نفسه عن أمله في أن تضيق هذه الحدود رويدا رويدا. أما الثاني فيعترف بها على أنها حقيقة ثابتة؛ إذ إن المجال الذي يحيا فيه هو ذاته هذه الحدود التي يقول إن العلم لا يتعداها. فموقف الوجودي إزاء العلم هو موقف الحارس الذي يدافع عن أرضه الخاصة ضد عدو يخشى أن يسلبه إياها. ومن هنا كنا نرى نقطة البداية الأولى للتفكير الوجودي عامة هي تأكيد قصور العلم ووقوفه عاجزا في ميادين معينة، وفي هذه الميادين ذاتها تبدأ الفلسفة الوجودية نشاطها. ونيتشه في هذا يخالف الوجوديين تماما؛ فقد كان في فترة غير قصيرة من حياته يتحمس للعلم ويؤمن به إيمانا مباشرا، ولم يتخل عن إيمانه هذا في بقية الفترات، ولم يحاول أن يجعل مصير تفكيره مرتبطا بوجود حدود معينة للعلم، بل لم يكن يجعل من إيضاح هذه الحدود هدفا أصليا لتفكيره كما فعل كثير من الوجوديين، وعلى رأسهم كارل ياسبرز
Página desconocida