نيتشه وفاجنر
في نوفمبر سنة 1868، وفي خلال إقامة قصيرة لفاجنر في ليبتسج، قيل له إن هناك شابا ألمانيا شديد الإعجاب بموسيقاه، يحفظ مقطوعات عديدة من إنتاجه الأخير (في ذلك الوقت) وهو «أساطين الطرب
Die Meistersinger »، فأبدى فاجنر رغبته في مقابلة هذا الشاب المتحمس له. وفي الثامن من نوفمبر، تقدم ذلك الشاب لمقابلته وصافحه ذاكرا اسمه «فريدرش نيتشه».
وفي تلك الفترة، كان نيتشه في مستهل حياته العقلية، يشق طريقه بعزم فتى في الرابعة والعشرين. أما فاجنر، فكان قد اقترب من نهاية حياته الفنية، وأتم التعبير عن ذاته أو كاد، ولم يعد يعرف الهجوم العنيف ولا الثورة الهوجاء، بل انتهى إلى هدوء ساخر لا يخلو من استسلام، عبرت عنه «أساطين الطرب» أحسن تعبير. كان الأول لم يزل مغمورا، لا يعرفه أحد، وإن يكن شديد الثقة بمستقبله. أما الثاني فكان اسمه على كل لسان، ومجده الماضي يكفيه في مستقبل حياته.
على أن التفاهم سرعان ما ساد بين الرجلين، ولم تكن الموسيقى وحدها هي مصدره، بل جمع بينهما الإعجاب المشترك بفلسفة شوبنهور، وبتفسيره الفني للحياة وللعالم. وهكذا تقابل الرجلان مرة أخرى في تريبشن
Triebschen
في العام التالي، وتكررت مقابلاتهما في ذلك المكان الذي اتخذه فاجنر مهبطا لوحيه. ووجد نيتشه في فاجنر فنانا أحيا آراء شوبنهور النظرية وحققها عمليا، ووقفت لديه الموسيقى مع الفكر جنبا إلى جنب، واجتمع الشعر والنغم في دراماته الموسيقية ، على نحو يذكره بما كان في «التراجيديا» اليونانية من فن متكامل، وهكذا كتب نيتشه إلى صديقه إرفين روده
Erwin Rhode
يقول: «... إن ما أتعلمه وأراه وأسمعه وأعقله هنا شيء يفوق الوصف. ولتصدقني إذا قلت لك إن شوبنهور وجيته، وإسخيلوس وبندار، ما زالوا أحياء.» ومن جهة أخرى أعجب فاجنر وزوجته كوزيما بذلك الشاب المتحمس، ووجداه يفوق في ثقافته وعلمه كل من دخل في دائرة معرفتهما، وأدرك فاجنر أنه في حاجة إلى مثل هذه العقلية الفنية المتحمسة، التي تستطيع أن تأتي بأقوى الدعامات لآرائه الفنية في ميدان الفلسفة والفكر. وهذا بالفعل هو ما حدث في بداية الأمر؛ فقد ألف نيتشه كتابه الأول «ميلاد المأساة من روح الموسيقى»، محاولا فيه أن يهتدي إلى الصلة بين الدراما الفاجنرية والمأساة الإغريقية، ويدعو فيه إلى نهضة متكاملة في الحياة الحديثة، يؤدي فيها فن فاجنر وفلسفة شوبنهور الدور نفسه الذي أداه فن إسخيلوس في حياة اليونان القديمة، ويحلم بعصر تسوده الغريزة المنطلقة، وتخفت فيه أضواء العقل الخالص، الذي أضفى على حياة الإنسان لونا باهتا.
وبقدر ما لقي الكتاب في دائرة فاجنر من ترحيب، فإنه أخفق في لفت أنظار الباحثين خارج هذه الدائرة؛ إذ تجاهله النقاد تجاهلا يكاد يكون تاما، ووصفه القليلون الذين انتبهوا إليه بأنه «سنتور»
Página desconocida